شعوب تحلم بالسلام لا بالحرية

الحرب ليست خطأ. إنها جريمة. أما إذا كان تبرير الحروب عن طريق التشبث بأمل نشر الديمقراطية وتحرير الشعوب من استبداد الأنظمة الشمولية الحاكمة، فإن ذلك التبرير يعد إساءة مقصودة لمبدأ الديمقراطية ولمفهوم الحرية، قبل أن يكون محاولة بالغة القبح لإخفاء الحقيقة. حقيقة المصالح المتناقضة التي تدفع بالغرب إلى التنكر لمبادئه الأخلاقية حين يتنقل بين مواقف، ينقض بعضها البعض الآخر.

ولأن الحرية هي مطلب إنساني لا يمكن فرضه على الشعوب، فقد كان قانون تحرير العراق الذي أقره الكونغرس الأميركي في العام 1998 خطوة اتخذ من خلالها مفهوم الحرية طابع الاحتكار السياسي الذي ينسجم مع إرادة مؤسسات عسكرية، كانت قد قررت منفردة أن تفرض الحرية عن طريق الاحتلال.

وهو ما يمكن اعتباره اعترافا ضمنيا بوقوع نقلة غير مسبوقة على مستوى تعامل الغرب مع واحد من أعظم المفاهيم التي كان يفاخر بها، وهو مفهوم الحرية، ويعتبره واحدة من معجزاته في العصر الحديث.

لقد ضُربت الحرية في الصميم حين صار فرضها على الشعوب سببا لشن حروب، سيكون على تلك الشعوب أن تدفع ثمنها. وهو ثمن باهظ لن تكون الحرية ممكنة بعده.

وهو ما يمكن استخلاص نتائجه من التجربة العراقية بعد الغزو الأميركي الذي وقع عام 2003.

فالبلد الذي تم تدميره بشكل كامل حُرر شعبه من إمكانية إعادة بنائه، فذلك الشعب تم تسليمه إلى الفوضى “الخلاقة” التي فتحت أمامه دروب متاهة سيجد نفسه بعد سنوات عاجزا عن الخروج منها، بل صارت حريته نوعا من تصريف شؤونه في ظل شعوره بأن تلك المتاهة صارت وطنه البديل الذي صار عليه أن يوظف كل حواسه من أجل تجميله والتماهي مع ما يفرضه عليه من حلول متهالكة.

وإذا ما كان العراقيون قد حلموا في أيامهم السابقة بالحرية، فإنهم لم يتخيلوا أن تلك الحرية ستقع على حساب إنسانيتهم. فما إن سقط تمثال صدام حسين حتى تمكن منهم الفساد الذي ضرب بخرابه كل مفاصل حياتهم.

وكانت الحرية التي هبطت عليهم بمظلات أميركية إيذانا ببدء عصر القتل المجاني، وهو ما جعلهم يحنون إلى عصر، كانت الدولة فيه مسؤولة عن سلامتهم وعن أمنهم وسلامهم الأهلي ولقمة عيشهم. يومها كان عليهم أن يفكروا في أن الحرية التي حلموا بها كانت خطأ في الحساب.

ذلك لأنهم لم يتوقعوا أن تقوم القوة العظمى بسرقة ثوابت حياتهم، مقابل حرية هي مجرد فوضى، يتسلق من خلالها القتلة السلالم التي تقود إلى السلطة على جثث الحالمين. كانت الحرية فخا، فقد الشعب بعد السقوط فيه قدرته على أن يكون شعبا.

صار عبارة عن مكونات، يقاتل بعضها البعض الآخر وينتظر كل واحد منها فرصته للاستيلاء على حصته من ثروة العراق الذي لم يعد وطنا لأحد. كانت الحرية كذبة بُنيت على كذبة اسمها الشعب.

فالشعب الذي تحول إلى مكونات، يحارب بعضها البعض الآخر بعد أن فُرضت عليه الحرية من قبل محتليه، لم يكن في الحقيقة يحلم بأن يُترك في العراء من غير قوة تحكمه. بل كان في حاجة إلى قدر من العدالة التي تنصفه باعتباره شعبا.

غير أنه بالتأكيد لم يكن في انتظار من يهبه حرية لا تضع كرامته في الاعتبار. وهي حرية يتمكن من خلالها توني بلير وجورج بوش الابن من الإفلات من جرائمهما بسبب عجز الضحايا عن فهم ما جرى لهم.

وقد يكون جارحا إذا ما قلت إن الشعوب لا تفكر في الحرية التي فسر من خلالها بلير وبوش جرائمهما. ما تفكر فيه الشعوب لا يمكن أن يكون جزءا من أجندة المحتلين. هناك شعب خيالي يتحدث نيابة عنه المستعمرون الجدد. وهو شعب قد يحن، هو الآخر، إلى عصر الاستبداد ليعيش حياته بسلام.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: