الهواتف المحمولة: عادة تفصل الموت عن الحياة
التحدث في الهاتف المحمول أثناء القيادة وكتابة الرسائل الإلكترونية لا يقلان خطرا عن القيادة تحت تأثير الكحول، فكلاهما يعد سببا في زيادة معدلات حوادث الطرق المميتة، ومن أكثر الأشياء الصادمة أن مثل هذه الحوادث لا تقع “صدفة” بل من الممكن تفاديها، عن طريق تبني نموذج وقائي أثناء القيادة، يبدأ بالتخلي عن الهاتف المحمول وخفض معدلات السرعة وعدم القيادة بعد تناول الكحول واستعمال أحزمة الأمان والمقاعد الخاصة بالأطفال وارتداء قبعات السلامة لراكبي الدراجات.
يعد الهاتف المحمول من أعظم الاختراعات الحديثة، بسبب كثرة المهام التي يقوم بها الناس بالاعتماد على خدمات التواصل الرقمي السريع وغير المكلف نسبيا، ومع ذلك فإن مكالمة هاتفية أو رسالة نصية، يمكن أن تكون في بعض الأحيان سببا في حوادث مميتة كان من الممكن تفاديها، ولكن عدم تقدير البعض من السواق للخطر الذي قد يعرضون له أنفسهم والآخرين معهم جراء استعمالهم لهواتفهم أثناء عملية القيادة، جعل الهواتف الذكية في قائمة أبرز أسباب الوفاة.
وتشكل الإصابات الناجمة عن حوادث الطرق مشكلة كبيرة تواجه الصحة العامة، وسببا رئيسيا من أسباب الوفيات وحالات العجز في جميع أنحاء العالم. وتقدر التكلفة المادية لحوادث الطرق بثلاثة إلى خمسة بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي العالمي، ويمكن أن تؤدي إلى وقوع الكثير من الأسر في هاوية الفقر.
وتتباين أسباب حوادث الطرق بين دول العالم، إلا أن هناك إجماعا من الخبراء على أن الانشغال بالهواتف أثناء القيادة يمثل عاملا مهيمنا في التعرض للحوادث وتحطم السيارات.
خطوات استباقية لتفادي المحظور
حذرت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها من السهو الناجم عن استخدام الهواتف المحمولة، ودوره في عرقلة أداء السائق، وذلك عبر تمديد الوقت الذي يستغرقه لرد الفعل بالفرملة أو أثناء إشارات المرور، والإنقاص من قدرته على المكوث في الممر الصحيح، وتقليص مسافات التتابع بين السيارات.
ولفتت منظمة الصحة العالمية إلى أن السائقين الذين يستخدمون الهواتف الجوالة يواجهون أكثر من غيرهم بأربع مرات تقريبا مخاطر التعرض للحوادث، مشددة على أن الهواتف التي تتيح إمكانية التكلم من دون استخدام اليد لا تضمن قدرا أكبر من السلامة مقارنة بالهواتف المحمولة باليد.
وتمثل حوادث السيارات السبب الرئيسي في العالم للوفاة بين الأطفال والشباب البالغين، والذين تتراوح أعمارهم بين 5 و29 سنة. واعتبرت منظمة الصحة أن عدد حالات الوفاة بسبب إصابات حوادث الطرق أكبر من عدد الوفيات بسبب فيروس نقص المناعة المكتسب (المسبب لمرض الأيدز) أو السل أو أمراض الإسهال.
وأشارت المنظمة إلى أن معدل حالات الوفاة بسبب حوادث الطرق في أفريقيا يبلغ 26.6 حالة بين كل 100 ألف شخص، وهو ما يقرب من ثلاثة أمثال المعدل في أوروبا، والتي سجلت أقل معدل في العالم.
وشهدت كل من بوتسوانا وساحل العاج والكاميرون أكبر زيادة في معدل حالات الوفاة، ومن بين الدول التي شهدت انخفاضا مصر وأنغولا وبوركينا فاسو وبوروندي.
وسجلت أفريقيا أيضا أعلى معدل في العالم لحالات وفاة المشاة وراكبي الدراجات.
ووفقا لأحدث البيانات، قُتل نحو 1.35 مليون شخص في حوادث سيارات في شتى أنحاء العالم في عام 2016، وذلك بزيادة طفيفة عن السنوات السابقة. ويقال إن خطر الوفاة على الطرق أعلى ثلاث مرات في البلدان ذات الدخول المنخفضة.
وتأتي منطقة جنوب شرق آسيا بعد أفريقيا باعتبارها ثاني أخطر منطقة، يليها شرق البحر المتوسط، فيما شهدت أوروبا والأميركيتان وغرب المحيط الهادئ انخفاضا في معدلات الوفاة الناجمة عن حوادث الطرق.
وشددت المنظمة على أهمية البنى التحتية الآمنة، مثل الأرصفة ومسارات مخصصة لراكبي الدراجات الهوائية والنارية وتحسين معايير السيارات، لاسيما تلك المتعلقة بالفرامل.
وبيّن تقرير المنظمة أن الوضع تحسن في الدول الغنية. في المقابل لم تسجل أي من الدول متدنية الدخل تراجعا في عدد الوفيات الإجمالي، خصوصاً بسبب غياب الإجراءات لتحسين السلامة، فخطر الوفاة في حادث مروري أكبر بثلاث مرات في الدول متدنية الدخل مقارنة بالدول مرتفعة الدخل.
وفي علاقة بعدم الانتباه أثناء شق الطريق بالنسبة للمشاة، حيث تم تسجيل 82 بالمئة منها داخل مناطق العمران في تونس، بالإضافة إلى السهو أثناء السياقة والذي يمثل 17 بالمئة من نسب أسباب الحوادث.
لكن البعض من الخبراء يلقي باللوم على الهاتف الجوال في ارتفاع عدد القتلى بين المشاة بسبب حوادث السيارات، ما دفع عددا من المدن حول العالم إلى اتخاذ جملة من التدابير لمواجهة قضية تشتيت الهاتف الذكي. ففي مدينة أوغسبورغ الألمانية، زودت المحطة الأرض بأضواء حمراء وخضراء لتحذير الأشخاص الذين “ينظرون بعناد إلى هواتفهم الذكية”.
وقام مسؤولون في مدينة بوديغرافن الهولندية بإجراء تجربة في فبراير 2017، حيث تم وضع اللونين الأحمر والأخضر على الأرصفة لتنبيه “زومبي” الهواتف الذكية أي الذين التصقوا بهواتفهم المحمولة أثناء عبور الطريق.
وقالت مجموعة السلامة على الطرق الهولندية إن هذه الفكرة بمثابة “مكافأة على السلوك السيء”. وفي السنوات الست الأخيرة، زادت حالات الوفيات بين المشاة بمعدل أربعة أضعاف معدل الوفيات الإجمالية على الطرق في الولايات المتحدة.
ووصل عدد الوفيات إلى 6 آلاف حالة وفاة بين المشاة في عام 2016، وهو أكبر عدد منذ أكثر من عقدين. وسنت مدينة هونولولو عاصمة ولاية هاواي الأميركية في عام 2017 قانونا يمنع المارة من النظر إلى هواتفهم المحمولة أو كتابة الرسائل النصية أو استخدام الأجهزة الرقمية أثناء عبور الطريق.
ويهدف هذا الإجراء إلى الحد من الإصابات والوفيات التي تنجم عن “تشتت الانتباه أثناء عملية السير”. وقالت الجمعية الملكية للوقاية من الحوادث في بريطانيا إنها ترى أيضا أن الهواتف المحمولة تشتت الانتباه بشكل خطير.
ويبيّن أحد الاستطلاعات التي أجرتها مؤسسة “السلامة على الطريق” الخيرية في بريطانيا أن 3 من كل 10 سائقين يرسلون أو يقرأون النصوص أثناء القيادة، وأن واحدا من كل ثمانية يستخدمون التطبيقات.
وتعتقد المؤسسة أن الكثير من السائقين لا يدركون أن التحدث على الهاتف من خلال السماعات أو تقنية البلوتوث محفوف بالمخاطر، وذلك لأنه يبطئ ردود الفعل في حال التعرض لأي خطر.
وقال مدير السلامة على الطرق نك لويد “يتعرض المزيد والمزيد من المراهقين والشباب اليافعين للإصابة نتيجة للتشتيت بسبب عبورهم الطريق أثناء استخدام هواتفهم، ويمكن أن يكون ذلك نتيجة لإجراء محادثة أو الاستماع إلى الموسيقى أو كتابة رسائل نصية أو استخدام الإنترنت”. وتشمل العوامل الأخرى في زيادة معدلات الوفيات بين المشاة، اتجاه المزيد من الأشخاص إلى المشي لأسباب تتعلق بممارسة الرياضة والبيئة.
ويلقى باللوم أيضا على الكحول حيث وجد أن 34 بالمئة من المشاة و15 بالمئة من السائقين المتورطين في حوادث مميتة بالولايات المتحدة كانوا مخمورين في ذلك الوقت.
وتعد الولايات المتحدة من الدول التي لديها قوانين صارمة تسمح بإنفاذ القانون على من يكتب الرسائل النصية أثناء القيادة، وقد ساهمت بذلك في خفض حوادث المرور الناجمة عن كتابة الرسائل النصية بنسبة كبيرة لدى جميع الفئات العمرية، بما في ذلك أولئك الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكبر.
ورغم أن الانشغال باستخدام الهاتف الجوال ليس السبب الوحيد في ارتفاع عدد الوفيات بين المشاة، إلا أن العديد من الدراسات والتقارير تؤكد أنه يعد سببا رئيسيا، نظرا لأنه يشتت الانتباه بشكل خطير.
وبحسب المسح السنوي الذي أجرته شركة “سيسكو” الأميركية لتقنية المعلومات، وبالنظر إلى عدد من سيمتلكون هواتف ذكية في المستقبل، فإنه من المرجح ألا تكون حوادث الطرق بسبب الاستخدام المفرط للهواتف الجوالة ظاهرة مؤقتة، إذ من المتوقع أن يصل عدد الذين يمتلكون الهواتف بحلول عام 2020 إلى 5.4 مليار شخص حول العالم.
دراسات للتحكم في ظاهرة معقدة
تشير نتائج الأبحاث التي أجريت في هذا الصدد إلى أن مستخدمي الهواتف الذكية يتفاعلون مع أجهزتهم بمتوسط 85 مرة في اليوم، وأنهم يعتبرون الأذى النفسي الذي قد يسببه فقدان الهاتف يكاد يساوي الوقوع ضحية لأي حادث.
ويقول تيم وو الباحث بجامعة كولومبيا ومؤلف كتاب “تجار الانتباه: التدافع الملحمي للدخول إلى عقولنا”، إن الحاجة لتفقد هواتفنا باستمرار ترجع إلى طعم يوصف بـ”جدول المكافآت المتغيرة”.
وتوصل إلى هذه الفكرة عالم النفس الشهير والأستاذ بجامعة هارفارد، بي إف سكينر، بعد أن أجرى تجارب عدة أظهر فيها أن الحمام أدمن أكثر على نقر زر ما لإنزال الحبوب في حال عدم معرفته بالموعد الذي ستقدم فيه الحبوب.
ويرى وو أن تقديم المحفزات أو المؤثرات بشكل غير منتظم يؤدي لأقصى درجة من الإدمان، تماما مثل ماكينات القمار، وبالتالي ينقر البعض على هواتفهم كما ينقر الحمام على الزر ويشعرون بالإحباط كثيرا، لكنهم قد يجدون في بعض الأحيان ما يثيرهم ويحملهم على مواصلة المتابعة.
وأظهرت دراسة ألمانية أجرتها الجامعة التقنية في براونشفايغ أن الكثير من سواق السيارات لا يستخدمون هواتفهم الجوالة لإجراء المكالمات الهاتفية فحسب، بل يستخدمون التطبيقات الموجودة عليها أيضا.
وأشار الباحثون المشرفون على الدراسة إلى أن استخدام سواق السيارات لهواتفهم الجوالة على الطريق السريع يزيد عن استخدامهم لها عند السير داخل المدن بمقدار الضعف، وذلك بسبب ما يشعرون به من إغراء.
وحذرت الرابطة الألمانية للأخصائيين النفسيين في مجال المواصلات من أن النظر في الهواتف الذكية أثناء قيادة السيارة قد ينطوي على مخاطر جسيمة للسائق ولمستخدمي الطريق الآخرين.
وأوضح بيتر كيغلاند، متخصص علم النفس، أن كل إنسان ليس لديه إلا قدر معين من الاهتمام، يقدر أن يوجهه لشيء معين، وفي حالة توجيه سائق السيارة اهتمامه للهاتف الذكي، فإن جزءا من اهتمامه يتحول عن الطريق، وهو ما قد يحمل خطورة كبيرة. ويبقى السؤال المطروح هو، هل يقبل الناس التخلي عن هواتفهم أثناء السير أو القيادة، في وقت أصبحت فيه هواتفهم تلعب دورا كبيرا في حياتهم؟