العنف والعنف المضاد.. العالم على فوهة بركان صراع الأصوليات
أثبت تبني تنظيم الدولة الإسلامية للاعتداءات الدامية التي وقعت في سريلانكا وراح ضحيتها أكثر من 300 شخص، أن هذه الفعلة الشنيعة جدّت تحت مسوقات الرد الانتقامي من المتطرفين الإسلاميين على هجوم “كرايست تشيرش” في نيوزيلندا الذي نفذه متطرف مسيحي، قيل إنه بدوره منتم إلى “جيش الظل” المسيحي المتطرف. ويحيل هذا العنف والعنف المتبادل بين هذه الجماعات المتشددة على أن العالم بات يسير نحو منعرج خطير قد تسيطر فيه مستقبلا صراعات الأصوليات المتطرفة، لتتغير بعد ذلك كل التقييمات والتوصيفات لأي مواطن في العالم، بحيث يُصبح تصنيف الفرد ليس بوصفه إنسانا أو مواطنا بل بوصفه مسيحيا أو مسلما أو يهوديا أو متبعا لدين آخر.
منذ القدم ورغم الخلافات والاختلافات بين المفكّرين حتى وإن كان بعضهم غير مؤمن، فإن جلهم خلصوا إلى أن الدين -حتى وإن كان في تفكير بعضهم وهما- ضروري لتواصل الشعوب، لكن ما يحصل اليوم في العالم، ينذر بأن العامل الديني بات محفزا لجماعات متطرفة مسيحية كانت أو إسلامية أو يهودية على توظيفه في حروب جديدة – قديمة، قوامها صراع الأصوليات.
إن ما حدث في سريلانكا ذات الأغلبية البوذية والأقلية الكاثوليكية من اعتداءات دامية، يشي بأن المتطرفين من مختلف الديانات سماوية كانت أو غيرها باتوا يحنون إلى إحياء معارك تاريخية كالحروب الصليبية مثلا، التي كانت قائمة في جوهرها على أبعاد دينية، لكنْ في بواطنها دفع نحو مسارات أخرى تكون بالنهاية قائمة على شعارات تأمين المصالح تحت مسوقات وذرائع الحرب المقدّسة.
ويثبت اعتراف تنظيم الدولة الإسلامية وتبنيه لعملية سريلانكا، ظاهريا أن العالم اليوم بات محاصرا أكثر من أي وقت مضى بعنف الصراعات الأصولية، التي تقدّم نفسها على أنها ناطقة باسم الله، للتأكيد على أن الحروب المرتقبة ستحوّل وجهة الصراع من النزاع على المصالح إلى حرب أخرى أكثر قُدسية لا تخرج عناوينها عن الهوية الدينية، لكن الغوص في المسألة قد يُثبت عكس ذلك تماما ليتبين أن كل الجماعات المتطرفة أصبحت تلجأ إلى الحروب بين الأديان فقط لتحقيق مصالح دُنيوية.
وصراع الأصوليات الراديكالية، لم يعد وفق عالم الاجتماع الألماني هاينريش فيلهيلم شيفر في كتابه “صراع الأصوليات ـ التطرف المسيحي والتطرف الإسلامي والحداثة الأوروبية”، مقتصرا فحسب على الجماعات الإسلامية المتطرفة أو منحصرا في دوافع دينية بل تحول إلى ظاهرة عالمية تهدد مستقبل المجتمعات العلمانية الحديثة.
ورغم أن هذه الأصوليات المتطرفة، باتت أكثر دفعا للعالم نحو فوهة بركان ومصير مجهول، بتكريسها ومحاولة شرعنتها للعنف والعنف المتبادل، وهو ما حصل بالضبط مؤخرا في اعتداءات سريلانكا التي ثبت للجميع أنها ردة فعل على هجوم نيوزيلندا، فإن هاينريش، ذهب في كتابه المذكور إلى عكس ما يعتقده كثيرون، بتشديده على أن الحرب الدائرة اليوم ليست كما يراد تقديمها، فهي وإن كانت تهدف إلى تحويل وجهة الصراعات من التنازع على المصالح إلى حرب الهوية، فإن القاسم المشترك بين الأصوليات الراديكالية المختلفة ليس الدافع الديني كما هو شائع، بل هو مقترن أولًا وأخيرًا بالأوضاع والمصالح التي تتصرف على أساسها تلك الجماعات.
والأكثر غرابة، في هذه الصراعات المُخيفة التي تحدق بالعالم، أن أعنف الأصوليات المتطرفة، تنحدر من ديانات تشترك في قواسم كثيرة وعلى رأسها أن جميعها ديانات توحيد وتؤمن بفكرة الإله الواحد وتتشابه إلى حد بعيد في الكثير من الممارسات وخاصة في المحددات الأخلاقية التي تفرّق على سبيل المثال بين الخير والشر أو بين الفضيلة والرذيلة، إذن ما هي الدوافع الحقيقية لهذا الصراع المحموم؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب النبش في تجارب سابقة من حروب شُنّت باسم الدين، حينها فقط يتبين، أنه وعلى الرغم من وجود اتفاق على أن مصدر هذه الديانات واحد، فإن مصدر تنافسها وصراعها تحت ذرائع الهوية الدينية قوامه أن كل طرف يُريد إثبات أن دينه هو الحق وهو الذي وجب فرضه على الناس والعالم.
واستنادا إلى كل هذه العوامل الأخيرة، تجد كل طرف يشرّع لنفسه ما يسميه حربه المقدّسة، مستشهدا بمار ورد في كتابه المقدس، أو ما ورثه عن تعاليم المسجد أو الكنيسة أو المعبد، وعيا وقصدا منه بأن الدين هو أحد أهم الأسلحة الناجعة التي يمكن عبرها جرّ الناس وراء أي فكرة يُخطط لها أو يقترحها.
المفارقة الأخرى، التي تمخضت عن هذا الدفع إلى صراع دام مغلّف بتراتيل الأديان، أنه جعل العالم يتابع تطورات الأحداث عقب كل اعتداء إرهابي أو تفجير يحصل في مكان من مختلف أصقاع العالم، ليس بمنطق النظر إلى الضحية بصفته إنسانا أو مواطنا، بل إن التمحّص في الحدث أو دوافعه، بات يُبنى بصفة آلية على منطق قائم على توصيفات أخرى رهانها الأساسي البحث عن هوية الضحية وخاصة ماهية ديانتها، هل هو مسيحي أم مسلم أم يهودي، والعكس بالعكس عند محاولة التعرف أيضا على منفذ الجريمة الإرهابية.
كل هذه الخطابات المتطرفة والعنيفة لم تولد هكذا صدفة، بل تستند في معظمها إلى استدلالات منها ما هو فقهي على سبيل المثال، في ما يخص أعنف الجماعات الإسلامية الإرهابية فهي تسلّم جزافا بما شرّع له بعض الفقهاء على شاكلة ابن تيمية الذي يقول “من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبَادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر”.
بنت جل الجماعات المتطرفة التي توهم المسلمين بأنها تنطق باسم الله ووجب اتباعها،على مثل هذه القراءات الفقهية المتطرفة، التي لم تكن سببا فحسب في دفع بعض المسلمين إلى تبني خطابات العنف والتكفير، بل مهّدت أيضا لميلاد جهات متطرفة مضادة من أديان أخرى.
وبنفس الطريقة تقريبا، التي مهدت لوضع اللبنات الأولى، للتطرف الإسلامي، ترعرعت خطابات دينية متطرفة في الكثير من الدول الغربية، وهذه الخطابات حاملة لمنطق واحد وشعار واحد وهو نبذ الإسلام. تزامنا مع تواتر التقارير الدولية المبشّرة بنهاية تنظيم الدولة الإسلامية عسكريا وميدانيا على الأقل وليس فكريا، ظهرت من جديد نعرات يمينية أكثر تطرفا من ذي قبل، ساهمت في تغذية مشاعر الحقد والكراهية وسط مجتمعات أوروبية يبدو أنها باتت أكثر رفضا للأقليات المسلمة، استنادا إلى خطابات شعبوية ومتطرفة يشرع لها قادة سياسيون من قبيل مارين لوبن في فرنسا أو غيرها من القادة اليمينيين في إيطاليا وألمانيا… إلخ.
وعلى هذه التطورات، فإنه لم يعد من قبيل التخمين أيضا الحديث عن تزايد المخاوف من حدة هذه الصراعات الأصولية، فتحذيرات السلطات الألمانية في الأشهر الأخيرة من إمكانية أن يطل “جيش الظل” اليميني المتطرف في عدة مدن من البلاد خير دليل على ذلك، فيوما بعد يوم تتفاقم الحاضنة الشعبية للأحزاب المتطرفة في أوروبا، ما ينذر بأن العالم لن يكون هادئا في المستقبل القريب بالتزامن مع مواصلة بعض الخلايا النائمة التابعة لداعش أنشطتَها في بعض معاقلها في أوروبا، في فرنسا أو بلجيكا على سبيل المثال.