الحراك الشعبي الجزائري ضد نزع الفساد بالتقسيط والانتقائية
هل يستطيع الراصد للوضع السياسي الجزائري الراهن أن يستنتج أن ما يحدث الآن في البلاد ليس سوى محاسبة انتقائية ضد الفاسدين ضمن جماعة وحلفاء الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، أم أن الأمر هو في بدايته الأولى وسوف تشمل عمليات التطهير كل اللصوص الذين نهبوا الثروة الوطنية دون تحيز أو استثناء؟
لا بد من التوضيح هنا أن هناك أصواتا بدأت ترتفع ويصرح أصحابها أن كثيرا من كبار رجال الأعمال الذين يحالون هذه الأيام إلى العدالة ويودعون السجن هم في الغالب من بربر القبائل الكبرى بولاية تيزي وزو، ويصنف هؤلاء من طرف هذا التيار أو تلك الجهة إما كأتباع لبوتفليقة ولجماعة تلمسان والغرب الجزائري، وإما كترسانة تابعة للجنرال محمد مدين المعروف بالجنرال توفيق، مسؤول جهاز المخابرات سابقا والذي حذره الأسبوع الماضي وللمرة الأخيرة، نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أحمد قايد صالح متهما إياه بالتحريض والدفع باتجاه تفجير الأوضاع في الجزائر.
ويجرنا هذا الوضع المتوتر إلى تسجيل أن الحراك الشعبي محق فعلا في رفض كل الوجوه الفاسدة في المشهد الجزائري ورغم ذلك فهناك من يلح في إثارة هذا السؤال المركب: هل تنفذ المحاسبة ضد عدد من الأثرياء والسياسيين المنتمين إلى بربر الشمال الأوسط بالجزائر بسبب اصطفافهم إلى جانب بوتفليقة وزمرته وجراء فسادهم المالي والسياسي، أم أن ما يحدث هو عراك مقنَع حول السلطة والنفوذ بين قطب تمثله قيادات عسكرية وحزبية تنتمي إلى بربر منطقة الشاوية وحلفائهم من جهة، ومن جهة أخرى بين قطب التحالف المتكون من عدد من الشخصيات المعروفة بانتمائها إلى إثنية قبائل بربر الشمال الأوسط منهم على سبيل المثال رجل الأعمال علي حداد والوزير الأول أحمد أويحيى، بقيادة عصبة جماعة تلمسان والغرب الجزائري وفي طليعتها عبدالعزيز بوتفليقة وأخواه ورئيس المجلس الدستوري السابق الطيب بلعيز المنحدر من تلمسان، وعبدالمؤمن ولد قدور المنحدر أيضا من تلمسان والذي شغل منصب الرئيس المدير العام لشركة سوناطراك النفطية وأقيل منه الثلاثاء الماضي؟
هناك محللون سياسيون يطرحون السؤال التالي أيضا: لماذا يحاسب الملياردير الأمازيغي أسعد ربراب الذي مثل هذا الأسبوع أمام السلطات القضائية ثم تم إيداعه سجن الحرَاش بعد أن اتهم بالفساد المالي وغير ذلك من القضايا، علما أنه لم يكن حليفا أو حتى مهادنا لبوتفليقة وزمرته ثم ما معنى الإبقاء على عبدالقادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة السابق والرئيس الجزائري الحالي المعين والمرفوض من الحراك الشعبي بقوة علما أنه يصنف ضمن خانة جماعة بوتفليقة وتلمسان؟
في هذا السياق لا بد من التذكير أن الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير الماضي قد طالب مرارا وتكرارا بضرورة قطع دابر كل رموز وتراث النظام الحاكم، بما في ذلك عبدالقادر بن صالح الذي يصنف كرأس حربة الفساد في الحياة السياسية الجزائرية. كما ندد هذا الحراك بكل من يعرقل إحداث القطيعة الراديكالية مع الثقافة السياسية المناهضة للتغيير في الجزائر بكل تجليات هذه الثقافة البائسة والرجعية بما في ذلك الثقافة السياسية لأحزاب الزيف التي تدعى بالموالاة وللأحزاب المدعوة خطأ بالمعارضة والتي لم تناضل بشجاعة من أجل خير المواطنين البسطاء، والنخب التي كانت تُركلُ يوميا أمام مرأى الجميع.
وفي الواقع فإن الحراك الشعبي يعتبر النظام الجزائري الحاكم بكل أبنيته وخطاباته مسؤولا مباشرة على انتشار الفساد في البلاد، خاصة وأنه قد أسس منذ الاستقلال لثقافة الدكتاتورية ونشرها في مختلف مفاصل أجهزة السلطة الجزائرية على مستوى المركز وعلى مستوى الجزائر العميقة.
والجدير بالذكر هنا هو أن بنيات الفساد وممارسات الحكم الجائر ليست حديثة العهد في الجزائر وإنما هي مخضرمة ولكنها تخمرت وطفحت إلى السطح بشكل مفضوح في مرحلة حكم عبدالعزيز بوتفليقة وزمرته. من البديهي أن الجزء الأغلب للمكون البشري الشعبي النظيف ضمن مشهد الحراك الشعبي يدرك تماما أن إزالة البنيات العميقة للنظام الحاكم، والشخصيات الفاسدة التي ما فتئت تعمل ضمن النسق العام للنظام الحاكم ليست بالأمر الهيَن لأن أخطبوط النظام الجزائري يتميز بخاصيتين أولهما “الخاصية الشبحية” التي تخفي الفاسدين الكبار والسماسرة الصغار الذين يحركونهم من وراء الستار كالخفافيش في الظلام، أما الخاصية الثانية فتتلخص في كون هذا النظام الحاكم حتى الآن هو أشبه ما يكون بالجذمور متعدد الذيول والمتوغل في كل مكان، حيث يصعب الكشف عن رؤوس وذيول المافيا المكونة له بسهولة. والحال هو أن ظاهرة الفساد، بأنماطه المالية والإدارية والثقافية والإدارية والتعليمية والسياسية، لا تخلو منها مراحل الحكم التي عرفتها الجزائر منذ الاستقلال.
إن مرحلتي الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد قد لعبتا دورا في تشكيل اللبنات الأولى لنشأة مافيا الفساد الإداري والمالي والسياسي وللمركزية البيروقراطية، ومن بين أبرز الأدلة على ذلك يمكن مثلا ذكر التقرير الذي أصدره مجلس المحاسبة ضد عبدالعزيز بوتفليقة بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث اتهم باختلاس الملايين من الدولارات وفي هذا الخصوص أوضح الرئيس الشاذلي بن جديد في الجزء الأول من مذكراته المطبوعة في الكتاب الصادر عن دار القصبة للنشر والتوزيع قبل وفاته أن بوتفليقة قد أعاد بعضا من تلك الملايين إلى خزانة الدولة، ولكنه لم يبرز قيمة ذلك المبلغ ولم يذكر أي تفاصيل عن المبلغ المتبقي لديه. وفي الواقع فإن الرئيس بومدين نفسه قد اتهم المجاهد محمد خيضر أحد الزعماء الخمسة باختلاس أموال الثورة وتم اغتياله في ظروف غامضة بمدريد بإسبانيا في عام 1967.
لا شك أن تاريخ الفساد في الجزائر متعدد ومعقد، ولكن المشكلة التي تؤرق العناصر الوطنية في مشهد الحراك الشعبي وكذا النخب الوطنية النزيهة تتمثل في الاختزال التعسفي الذي يمارسه عدد من القيادات في هرم السلطة للفساد في الأمور المالية بشكل انتقائي وتلفيقي، حيث تُطمسُ بذلك أنماط الفساد الأخرى التي تمثل التهديد الحقيقي للهوية الوطنية، وفي المقدمة الفساد في ميادين المعمار والثقافة والتعليم الابتدائي والتكميلي والثانوي والمهني والجامعي، فضلا عن الفساد الأخلاقي والتضليل الإعلامي الذي يلوَث الرأي العام الوطني.
ثم ماذا عن الفساد الذي كرسه النظام في صور عدة مثل التحطيم المنهجي للكفاءات الوطنية التي فرض عليها الفقر والتهجير بالآلاف إلى أوروبا وكندا وغير ذلك من أصقاع العالم بحثا عن الكرامة المادية والمعنوية، وماذا عن الفساد المخرب للمؤسسات الطبية والجامعية والصناعية، ولماذا لا تفتح ملفات المسؤولين الجزائريين المدنيين الموجودين سابقا أو الآن في أعلى هرم السلطة، وهل ستفتح ملفات الجنرالات والضباط ورؤساء الحكومات المتعاقبة والوزراء السابقين الذين أسسوا وطوروا أساليب ومنهجيات وتقنيات الفساد بكل أنماطه؟