سريلانكا من عنف الانفصاليين إلى إرهاب الإسلاميين
اتهمت الحكومة السريلانكية جماعة إسلامية متشددة “جماعة التوحيد الوطنية” بالوقوف وراء تفجيرات الأحد الدامي التي خلفت أكثر من 290 قتيلا ومئات الجرحى، لكن ربطها بجهات خارجية تدعمها لوجستيا ربما يؤكد تحذيرات سابقة رجحت أن تكون منطقة آسيا مركزا جديدا بل إستراتيجيا لمشروع “خلافة جديدة” انهارت في منطقة الشرق الأوسط وتحاول تجميع قواها على أراض خصبة بالعرقيات وذات باع طويل في الحروب الأهلية.
بقدر ما تولي الحكومة السريلانكية اهتماما بمحاكمة عناصر الجماعة الإسلامية المحلية المورطة في سلسلة التفجيرات التي تزامنت مع إحياء الأقلية المسيحية الكاتولوكية لأعياد القيامة إلا أن التركيز على ولاءاتها الأجنبية وظهيرها الخارجي يحمل رسالة إلى الخارج أكثر من الداخل.
ولعل اتهام السلطات لجهات خارجية بالوقوف وراء العمليات الإرهابية قد يخفف الاتهامات بتقصيرها الأمني خاصة وأن تقارير إعلامية تشير إلى أن السلطات الأمنية تجاهلت تحذيرات مسبقة من إمكانية وقوع هجمات ولم تأخذها على محمل الجد.
حكومة سريلانكا متواطئة
تنشط جماعة التوحيد في سريلانكا على الرغم من أيديولوجيتها الإسلامية المتشددة بكل حرية في البلاد رغم تصريحات قادتها المسيئة ضد غير المسلمين خاصة من الطائفة البوذية.
وتعرف الجماعة نفسها، بحسب تصريحات سابقة لأعضائها، بأنها جماعة إسلامية مختصة في الدعوة إلى الدين في كافة أنحاء البلاد، وتقدم خدمات اجتماعية تهدف إلى رفع مستوى المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، في سريلانكا.
وعلى الرغم من إدانة قادتها عدّة مرات بالوقوف وراء التحريض ضد الأقليات الدينية غير الإسلامية إلا أن الحكومة في سريلانكا لم تتخذ خطوات نحو حظرها أو حلّها وكانت في كل مرة تطلق سراح قيادتها.
ويشير خبراء في الشأن الآسيوي إلى أن السلطات في سريلانكا تتحاشى الصدام أو مواجهة أنصار هذه الجماعة حفاظا على السلم الأهلية، خاصة بعد عقود من الاقتتال الطائفي مع انفصاليي نمور التاميل ما تسبب في مقتل 100 ألف مواطن.
وفي عام 2013، انتشر فيديو لشخص يدعى عبدالرازق المتحدث باسم جماعة التوحيد، أدلى خلاله بتصريحات مسيئة للمعتقدات البوذية، وهو ما أغضب أصحاب الديانة بشدة.
وفي 2016، هاجمت الجماعة من خلاله رهبان البوذية، مما أدى إلى تقديم شكوى ضده و6 من أعضاء الجماعة إلا أن السلطات أفرجت عن زعيم الجماعة الإسلامية بكفالة بعد اعتذاره إلى المحكمة عن تلك الإساءة.
وترى جماعة التوحيد الوطنية، أنها تطبق “الشريعة الإسلامية” في حياتها، إذ خرج الكثيرين منها عام 2016 للتظاهر في مدينة ماليجواتا، ومارادانا، ضد تغيير الحد الأدنى لسن زواج الفتيات والمقرر بـ12 عامًا.
وقررت سريلانكا الامتثال للقوانين والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق المرأة، إلا أن أعضاء الجماعة تظاهروا لعدم وضع حد أدنى للزواج وهو ما اعتبروه “قانونا إسلاميا”، لا يجب تغييره.
تعتبر المجتمعات الآسيوية ذات التنوع العرقي والاثني وصاحبة الباع الطويل في الحروب و الحركات الانفصالية المسلحة مرعى خصبا لانتشار الأيديولوجيات المتشددة و”الإرهاب المقدس” وهو ملاذ أكثر أمنا لنقل تنظيم داعش لـ”خلافته المهزومة” في العراق وسوريا إلى هذه المجتمعات التي تحكمها ديناميكية “الاقتتال” من أجل المقدس.
ويبلغ إجمالي عدد سكان سريلانكا 21 مليون نسمة، بواقع 1.2 كاثوليك، وأغلبية بوذية بنسبة 70 بالمئة، وهندوس 12 بالمئة، و10 بالمئة من المسلمين.
ونقل التنظيم الجهادي المهزوم فعلا “خلافته” إلى آسيا، حيث يحاول استقطاب الجماعات الدينية المحلية، بايع بعضها وبعضها الآخر ما زال مترددا لكنه متعاطف فكريا.
وبناءً على ما توصلت إليه مراكز دراسات عديدة، فإن الجماعات الجهادية المتطرفة في آسيا لا تحتاج في الوقت الحالي على الأقل إلى دعم داعش لها، بقدر ما توظفه كفزاعة لإكساب تموضعها المحلي بُعدا إقليميا ودوليا، لكن تنظيم داعش هو الذي يحتاج إلى التموضع الإستراتيجي في الحاضنة الآسيوية البعيدة نوعا ما عن حاضنته الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.
بالنسبة إلى الكثير من السريلانكيين أعادت الاعتداءات على الكنائس والفنادق إلى الأذهان ذكريات أليمة لنزاع استمر ثلاثة عقود خاضه الانفصاليون التاميل وأودى بحياة ما يصل إلى مئة ألف شخص.
وفي سنوات ذلك النزاع، كانت الهجمات بالقنابل أمرا مألوفا، والكثير من السريلانكيين كانوا يشعرون بالتوتر في الشارع وفي وسائل النقل العام. وشن التاميل حملتهم للاستقلال عام 1972. وقد سحق الجيش السريلانكي في عهد حكومة غالبيتها سنهالية التمرد في مايو 2009 بعد حرب أسفرت عن سقوط عدد كبير من القتلى قد يصل إلى مئة ألف قتيل.
اشتعلت الحرب الأهلية في سريلانكا في بداية الثمانينات بين الحكومة من جهة وجبهة تحرير نمور التاميل من جهة ثانية، في واحدة من أطول الحروب الأهلية في آسيا.
تدخلت الهند في الحرب وأرسلت قوات إلى الجزيرة من أجل القضاء على التمرد وذلك في عهد رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي مما تسبب في اغتياله لاحقا على يد الجماعة.
وتم التوصل في فبراير 2002 إلى اتفاق سلام بين الجانبين في تايلاند برعاية نرويجية. وقد استطاعت الحكومة القضاء على الحركة وقتل قائدها وتصفية التمرد في مايو 2009. لكن ما إن انتهت الحرب حتى فتح المجال لأزمات اجتماعية قد لا تقل خطورة عن الحرب، وثار جدال واسع بشأن ملفات كثيرة خلفتها موجة التشدد البوذي التي أعقبتها.
وتبلورت على شكل حلف سياسي بين المتشددين البوذيين ومعسكر الرئيس السابق ماهيندرا راجابانغسا، كانت حلقة الوصل فيها الفساد والمحسوبية والانتقام من الأقليات.
علاوة على أن الانتصار مكَّن الرئيس السابق راجابانغسا من تعيين نحو ثلاث مئة من أقربائه وذويه في مناصب عليا وحساسة، فقد أطلق أيدي حلفائه المتشددين البوذيين لاستهداف الأقلية المسلمة. وذلك على الرغم من أن المسلمين السريلانكيين دفعوا ثمناً باهظاً بسبب تمسكهم بوحدة البلاد، وتعرضهم لحملة تهجير قسري شملت مئات الآلاف منهم.
وبتوفر مناطق شاسعة خارجة عن سيطرة النظم المركزية لأسباب إثنية أو أيديولوجية وفشل محاولات إدماج الأقليات العرقية المهمشة لوقت طويل، تبقى التنمية في هذه المناطق وتوفير الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم للمختلفين إثنيا عن أغلبية السكان من أهم مقومات القضاء على التشدد وتجفيف منابعه التي تزداد إغراءً كلما تنامت الأزمات وتفاقم الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي.
وبوصول قطار التشدد الديني إلى تلك البلاد يعني أن العالم عليه أن يدرك ولادة جينات مطورة من الجهاد الديني تبحث عن أجساد تلائم التحول الجديد. وبحسب الخبراء فإن تلك الأجساد أو البؤر الخصبة الآن هي شرق آسيا وغرب أفريقيا.