سودان جديد دون عسكر وإسلاميين
قطع المجلس العسكري الانتقالي في السودان شوطا في التخلص من رموز نظام الرئيس عمر البشير منذ عزله في 11 أبريل، ونجح في الحصول على قدر من ثقة المتظاهرين، وأبدى مرونة في التجاوب مع الكثير من مطالب تجمع المهنيين، وتحالف قوى الحرية والتغيير، والوعد بتشكيل حكومة مدنية للتخلص من ميراث النظام السابق ووضع البلاد على طريق السودان الجديد.
ظل الراحل جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان يحلم بمشروع يحافظ على وحدة البلاد واستقرارها دون تمييز بين شمال وجنوب، أطلق عليه “السودان الجديد”، لكن نظام الخرطوم الذي كان يعبر عن أهداف إسلاموية فضل التضحية بالجنوب وقبل بحق تقرير المصير عام 2005 ثم الانفصال عام 2011، على أمل المحافظة على ما تبقى من السودان تحت هيمنته المزدوجة.
لجأ البشير إلى تقريب المسافات بين الحركة الإسلامية والمؤسسة العسكرية، ما منح الثانية أبعادا عقائدية لم تعرفها من قبل، وظهرت الكثير من الميول الدينية لدى قيادات كبيرة في الجيش السوداني، وتسبب هذا الاتجاه في إحكام السيطرة على الدولة، سياسيا وأمنيا، ولم تملك المعارضة القدرة على فصل العلاقة بين الجانبين.
تستغل المعارضة السودانية الآن فرصة تولي المجلس الانتقالي الحكم، عقب عزل البشير وعدد من القيادات السياسية والعسكرية والحزبية لمحاولة تأسيس نواة لسودان يخلو من ميول إسلامية في سدة الحكم ويبتعد فيه الجيش عن السياسة وتقتصر أداوره على المهام الأمنية، وهو ما يواجه بتحديات كبيرة على الأرض، فقد أمضى النظام السابق 30 عاما في السلطة، وهي فترة كفيلة بإحداث تغيير عميق في هياكل الدولة.
يتعامل الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، بحذر مع مطلب تجفيف منابع بقايا البشير في الجيش وإبعاد القيادات ذات الولاءات الإسلاموية، خوفا من حدوث إنشقاق في صفوف المؤسسة العسكرية أو انفلات يؤثر على خطة تصحيح مسار السودان، ونجح حتى الآن في التخلص من البعض، لكن الأمر يحتاج وقتا لإنهاء المهمة بهدوء، فبعد ثلاثة عقود تكوّنت طبقات اقتصادية واجتماعية استفادت من حكم البشير ورفاقه، يراودها أمل الآن في إعادة إنتاج نظامه.
يقتنع عدد من قادة المعارضة، مثل ياسر عرمان، نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال، بأن المجلس العسكري ورئيسه عبدالفتاح البرهان ونائب الرئيس محمد حمدان دنقلو (حميدتي) لا صلة لهم بالإسلاميين وبتنظيم الإخوان المسلمين، وهم حلفاء واقعيون ومحتملون لقوى التغيير، ووفروا الآلية الفاعلة ليطيح الشعب بعصابة الإنقاذ.
مربع إسلامي- عسكري
يصمم المتظاهرون في السودان على عدم مبارحة الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم، ولم تنخفض أعدادهم الأيام الماضية، وربما ازدادت، ودخلوا في حوارات كثيرة مع المجلس الانتقالي، لضمان نقل البلاد من المربع الإسلامي- العسكري إلى حكومة مدنية تتولى إدخال إصلاحات سياسية تضمن تأسيس دولة مدنية.
تدور هواجس حول بعض أعضاء المجلس الانتقالي، منهم الفريق أول عمر زين العابدين، رئيس اللجنة السياسية، والفريق أول شرطة الطيب بابكر، والفريق أمن جلال الدين الشيخ، والفريق طيار صلاح عبدالخالق، لأنهم من عتاة الإسلاميين في الجيش والشرطة والأمن، وقد تعتمد عليهم تحركات لتجميع الإسلاميين وتطوير الثورة المضادة تحت شعارات مختلفة.
لدى قوى المعارضة ميزة مهمة، تتعلق بوجود تكاتف إقليمي ودولي واسع حول ضرورة الإسراع بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، فضلا عن المرونة التي أبداها المجلس العسكري بشأن ترحيبه بتلقي أسماء مرشحة لتولي مناصب قيادية. ولدى المعارضة ميزة ثانية تخص اطلاعها على الكثير من خطوات ترتيب المرحلة المقبلة من دون الضغط مباشرة لفض المعتصمين، لأن هذه ورقة تضمن الاستمرار في تحقيق المطالب.
يحظى التخلص من الروافد الإسلامية في مؤسسات الدولة بدعم إقليمي واضح يصب في صالح المعارضة، وترى أطراف عديدة أن تصاعد دور الحركة الإسلامية في السودان أدى إلى توتر الأوضاع في المنطقة، نتيجة الانفتاح على دول مثل تركيا وقطر، المعروفتين بدعم القوى المتطرفة، كما أن المواقف اللينة من قبل الخرطوم تجاه معسكر الدول الرافضة لهيمنة الحركات الإسلامية لم تكن نابعة من قناعة حقيقية، وكانت مسكونة بالشكوك.
المعارضة السودانية تستغل فرصة تولي المجلس الانتقالي الحكم، عقب عزل البشير وعدد من القيادات السياسية والعسكرية والحزبية لمحاولة تأسيس نواة لسودان يخلو من ميول إسلامية في سدة الحكم ويبتعد فيه الجيش عن السياسة وتقتصر أداوره على المهام الأمنية
وتؤيد قيادات في المعارضة السودانية فكرة التعاون بين المجلس الانتقالي والقوى الإقليمية التي لها مواقف حاسمة من التيار الإسلامي، لأنها تؤكد رغبته في التخلص من جذور هذا التيار في الحكم وعدم المماطلة وإنحيازه للدولة المدنية، ما يطمئن المتظاهرين الذين وضعوا أولوية متقدمة لهذا الهدف، ويريدون التيقن من تنظيف المجلس الانتقالي من القيادات التي لديها حنين لحكم البشير، كما أن هذا الطريق يخفف الضغوط الخارجية على المجلس، وقد يمنحه بعض الوقت لتنظيف هياكل ومؤسسات السلطة من الخلايا النائمة للإسلاميين.
من مصلحة المجلس العسكري نفي صلته بالمناورات التي تمارس في بعض الوزارات لتعطيل المسار المدني الذي يتبناه، وهو ما ظهر في إقالة السفير بدرالدين عبدالله، وكيل وزارة الخارجية، الذي أعلن، الخميس، عن الترتيب لزيارة وفد قطري للخرطوم، من دون التنسيق مع قيادة المجلس الانتقالي.
وفُهم من الإقالة أن النظام الجديد في الخرطوم يريد عدم تطوير العلاقة مع محور قطر وتركيا، ويسعى إلى إنهاء المراوحة والانتهازية التي عرف بها النظام السابق، والأهم أنه لا يريد إعادة الكرة في الجذب مع الإسلاميين، في وقت تتزايد فيه التوجهات الخارجية نحو تقليص نفوذها في الدول التي تمددوا في ساحاتها السياسية والأمنية.
مشروع الدولة المدنية
إذا كانت هناك فرصة للتخلص من الإرث الإسلامي في السودان، فإنها تواجه عقبات في التخلص من الإرث العسكري، وثمة قوى إقليمية ودولية ترى صعوبة في تحول السودان إلى دولة مدنية على المدى المنظور، ومن الضروري أن يكون الجيش حاضرا لبعض الوقت لترتيب المشهد السياسي.
تستند تقديرات هؤلاء على تشتت قوى المعارضة بين أطياف مختلفة، وعدم وجود قيادات سياسية لامعة يمكن أن يلتف حولها قطاع كبير من المواطنين، يكون رديفا لها لمواجهة العناصر الخفية للحركة الإسلامية في الشارع وما يعرف بالدولة العميقة، من هنا ظهرت مطالبات تحض على أهمية منح المجلس العسكري فترة يطمئن خلالها لقطع أذرع بقايا نظام البشير.
وقال ياسر عرمان، الجمعة، على صفحته على فيسبوك، “المجلس العسكري به شخصيات لعبت دورا حاسما في اعتقال البشير، وإجبار عوض بن عوف وزير الدفاع والرئيس السابق للمجلس العسكري، وصلاح قوش رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني، على التنحي. وتضم هذه المجموعة عناصر من متوسطي وصغار الضباط وقوات الدعم السريع، وعليها أن تصل إلى شراكة لبناء نظام ينهي دولة التمكين ويصل إلى السلام وتصفية أركان النظام القديم، العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية”.