العمل عنوان البدايات الجديدة للمهاجرين العرب في الولايات المتحدة

أصبح العرب المهاجرون إلى الولايات المتحدة أكثر تفاعلا في قبول وظائف متدنية طالما رفضوا القيام بها في بلادهم، لضعف المكانة الاجتماعية، لكن انسجام العقل العربي مع المجتمع الغربي فتح آفاقا جديدة جعلته أكثر تفهما للبحث عن أسباب النجاح، مهما كانت التنازلات.

واشنطن – تحول توظيف مهاجرين عرب يقيمون في الولايات المتحدة في مهن وأعمال سبق وأن رفضوها في بلادهم الأصلية، إلى أمر لافت لأي متابع لحركة الجاليات العربية في المهجر، بشكل صار لصيقا بالنازحين الجدد من دول عربية مختلفة صوب أرض الأحلام طلبا لحياة أفضل.

بدت الظاهرة مُقنعة في ظل صعوبة توافر وظائف مرموقة للقادمين الجدد إلى الولايات المتحدة، نتيجة اتساع حجم التيار المحافظ المعادي لموجات الهجرة غير الشرعية، في ظل توجهات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرافضة لتدفق المزيد من الأجانب والانخراط في المجتمع.

ويدفع حرص المهاجرين العرب، خاصة في الشهور الأولى لوصولهم، على البقاء في البلاد بأي شكل، أحيانا إلى قبول أي عمل يدر مالا يحتاجونه مع فترة البدايات.

التقتت ” أخبارنا الجالية ” في واشنطن الكثير من المهاجرين القادمين من دول عربية مختلفة، من الذين يعملون في قيادة سيارات الأجرة والنقل وإعداد وتقديم الوجبات لزبائن المطاعم وخدمات الأمن والحراسة في الفنادق، رغم حصولهم على شهادات عُليا من جامعات بلادهم.

وبرر البعض قبولهم بأعمال كانوا هم وعائلاتهم ينظرون إليها بحرج على أنها تمثل وظائف سهلة ومتاحة أمامهم، لأن كافة الجامعات الأميركية لا تعترف بشهادات تخرج الأطباء والمهندسين وغيرهم من غالبية الجامعات العربية.

وتقول سلوى المرنيسي ، صيدلانية من المغرب 

، سافرت برفقة زوجها إلى واشنطن، لـ”اخبارنا الجالية”، إنها قدمت شهادة البكالوريوس الحاصلة عليها من إحدى الجامعات العربية لبعض الشركات المتاحة لديها وظائف في الصيدلة، غير أنها فوجئت بضرورة عمل دراسات مُعادلة تمتد لنحو سنة على الأقل حتى يتم الاعتراف بشهادتها، ما دفعها للعمل في أحد محلات تقديم الوجبات السريعة للحصول على مصروفات الدراسة اللازمة للدخول في المعادلة، معترفة بأنها لم تكن لتقبل بهذا العمل في بلدها، لأن نظرة المجتمع العربي نفسه لذاك العمل استعلائية.

وتفسر ذلك بأن الناس في بلادها “يعتبرون عمل الفتاة كنادلة في مطعم أمرا معيبا، رغم كونه عملا شريفا، وهو ما يرجع إلى أعراف وتقاليد لا تتناسب مع تطورات العصر”.

وتؤكد أن فتيات كثيرات يعملن في الولايات المتحدة في أعمال تبدو داخل المجتمعات العربية غير لائقة بالحاصلات على شهادات عليا، خاصة لو كانت تلك الشهادات في الطب والصيدلة والهندسة، طلبا للدخل.

اكتساب الخبرات

لا يوجد من يغامر بالسفر إلى الولايات المتحدة سعيا للاستقرار بها ويقبل أن يعود مرة أخرى لبلده

هناك فريق آخر يفسر ممارسة أعمال ومهن تبدو متواضعة بأنها خطوة لازمة في حياة أي مهاجر يحلم بتأسيس مشروع استثماري جديد. ويرى هؤلاء أن الولايات المتحدة أرض الفرص والاستثمارات الناجحة والمنافسة الصعبة، ومن أجل النجاح يجب جمع بيانات ومعلومات عن النشاط الاستثماري الخاضعة له تلك الأعمال واكتساب الخبرات اللازمة.

ويلجأ الكثير للعمل وفي أذهانهم ذلك التصور، ما يمثل ذكاء اجتماعيا لأولئك الباحثين عن خبرات حقيقية في مجتمعات جديدة عليهم.

ويقول منعم عبدالله، مهاجر من أصل مغربي ومقيم بواشنطن، ويمتلك شركة نقل أفراد خاصة، لـ”أخبارنا الجالية” إنه بدأ سنواته الخمس الأولى يعمل سائقا لدى شركة أميركية بهدف التعرف على كافة تفاصيل هذا النشاط، ثُم تمكن في ما بعد من إقامة شركة خاصة به لنقل الأفراد، ولم يشعر في عمله الأول بأي نظرة مجتمعية دونية، فقد اعتاد على العمل وتحقيق هدفه في النهاية.

ويضيف “عرفت كل شيء عن متوسط ساعات عمل السائق وأجره وتكاليف الصيانة ورسوم التأمين وأوقات الذروة في العمل، وغيرها من الأمور التي تصعب معرفتها دون ممارسة مباشرة”.

ويرى عبدالله أن جني ثمار الاستثمار الأمثل يتطلب من الساعي لذلك العمل في مختلف الأماكن بدءا من الوظائف الدنيا في المجتمع بحثا عن الخبرة والمعرفة قبل الربح المادي.. وهذا هو النجاح الحقيقي للمشروع.

وتابع “يحدث ذلك في ظل احترام وتقدير من المجتمع الأميركي لكافة الوظائف ما دامت شرعية وقانونية، على خلاف مجتمعات عربية عديدة تنظر لمهنة السائق أو السباك أو ناقل القمامة أو حارس الأمن بشيء من الاستعلاء الاجتماعي”.

وبنفس المنطق بدأ محمد علي، صاحب مطعم مأكولات بحي باترسون بولاية نيوجيرسي، العمل كنادل في أحد المطاعم قبل بضعة سنوات، قبل أن يقرر بعد أقل من عامين افتتاح مطعم مأكولات ضخم، صار من أهم المطاعم التي تقبل عليها الجاليات العربية في الولاية.

ويرى البعض من العرب الحاصلين على أوراق إقامة أو الجنسية الأميركية أن طريقة تفكيرهم نفسها تغيرت تماما، بعد مكوثهم في مجتمع متعدد الجنسيات والأصول والثقافات.

وينظر هؤلاء بنوع من عدم الرضا للأعمال اليدوية والحرفية والصناعية، غير أنهم صاروا يفكرون كما يفكر الأميركيون، ولا يجدون حرجا من أي عمل لأن المجتمع الأميركي يقدر العامل البسيط ويحترم العمل بشكل صارم.

ورغم اعتبار المجتمع الأميركي من أكثر المجتمعات استهلاكا، غير أن ذلك لا يعني أبدا الاستعلاء على مهن وأعمال بعينها. ومثّل ذلك التغيير حافزا للمهاجرين العرب الذين قبلوا أعمالا ووظائف سبق وأن رفضوا ممارستها في البلاد التي قدموا منها.

وأكد هشام العثماني، أحد الأميركيين من أصول مغربية، أن مَن يذوب بالفعل في المجتمع الأميركي لا يجد حرجا في العمل في أي مهنة للحصول على أجر مناسب.

وأوضح لـ”أخبارنا الجالية” أن أهم ما يشغل بال الأميركيين هو اتساق الوظيفة التي يعمل بها الشخص مع القانون، وهناك احترام حقيقي لكافة المهن باختلاف مكانتها أو الأجر المكافئ لها، وصحيح ثمة من يحصل على أجر يتراوح بين 15 و20 دولارا في الساعة الواحدة، لكن هناك أيضا مَن يحصلون على قيمة تتراوح بين 40 و50 دولارا في الساعة، والجميع يمكن أن يشعروا بالسعادة والرضا، لأن القانون يساوي بين الجميع بصورة جيدة عند التطبيق، وقد لا تكون المساواة مطلقة، لكنها أفضل كثيرا مما هو قائم في معظم الدول العربية.

رحلة عمل

 احترام حقيقي لكافة المهن

يحكي عمر السملالي، أميركي من أصل مغربي، لـ”اخبارنا الجالية ” عن تجربته في رحلته من العمل في بنك بالرباط إلى حارس عقار في فرجينيا، مشيرا إلى أنه بسبب نشاطه السياسي في بلاده، أجبر على اللجوء إلى الولايات المتحدة والانتقال للإقامة مع أحد أقاربه بولاية فرجينيا.

وقال “رغم إتقاني اللغة الإنكليزية لم أجد فرصة للعمل المصرفي والذي يتطلب مستوى رفيعا من الخبرات في البنوك الأميركية، ووجدت وظيفة مسؤول أمن في أحد الفنادق وقبلت بها، وفي أميركا في أي وقت يمكنك البدء من جديد، فهكذا يفكر الأميركيون، وهكذا ينجحون”.

وفي رأي الناظر، أن البعض يعتبر قبول وظائف عادية في الغرب لحاصلين على شهادات عليا يدخل ضمن التنازلات التي يراها المهاجرون مهمة للبقاء في الولايات المتحدة، لكنه يراها ضرورة حياتية يجب أن تحكم أدمغة الأجيال الجديدة في العالم العربي.

وهناك سبب آخر طرحه محمد بديوي، إعلامي مقيم في واشنطن، وهو أن المهاجرين العرب يحاكون غيرهم من مختلف بلدان العالم، فلم يعد الحلم الأميركي حكرا على العرب، وإنما أصبح هدفا للكثير من شعوب الدول النامية، وساهمت السينما والثقافة الأميركية المنتشرة في العالم في تأكيده وترسيخه لدى فئات مختلفة من الشباب.

ولفت السملالي  لـ”اخبارنا الجالية ” إلى أن المهاجرين من البلدان العربية يرون المكسيكيين والصينيين والكوريين والأفارقة يعملون في كافة المهن دون أي حرج أو تردد، ويختارون الأعمال ذاتها دون مشكلات ودون تركيز على خلفياتهم الاجتماعية، فنظرة التمييز والطبقية والفوقية غائبة تماما في ما يخص الأعمال في الولايات الأميركية.

ورغم أنه من النادر أن ترى أميركيين أصليين من البيض يعملون في مهن يدوية أو متواضعة، إلا أنه لا يوجد ازدراء مجتمعي ظاهر تجاه وظائف أو مهن بعينها.

ويشير البعض إلى أن الحصول على عمل في الولايات المتحدة مسألة سهلة حتى لأولئك المقيمين بصورة غير قانونية، وربما يحصلون على أجور أقل لكن لا أحد يقوم بترحيل مقيم بدعوى عدم وجود أوراق إقامة لديه.

وإذا كان الحد الأدنى للأجور في الولايات المتحدة يبلغ 15 دولارا في الساعة، فإن بعض العرب المقيمين بشكل غير قانوني يقبلون أعمالا بـ10 و12 دولارا في الساعة إلى حين الحصول على أوراق شرعية تسمح لهم بالعمل في أي مكان.

ولا يوجد مَن يغامر بالسفر إلى الولايات المتحدة سعيا للاستقرار بها ويقبل أن يعود مرة أخرى لبلده حتى لا يوصم بالفشل، ويفكر هؤلاء بعمق في العمل بأي مجال في سبيل الحصول على إقامة وعدم العودة لمجتمعهم الأصلي، أملا في الحصول على الجنسية لاحقا، والتي صارت أصعب كثيرا في الوقت الحالي، حيث يمر النازح بمراحل متعددة قد تصل بالبعض إلى ما يقارب العقدين للحصول عليها.

وليس غريبا أن تجد مَن يعمل في عملين في آن واحد، وقد لا تكون بينهما علاقة مثل تدريس اللغة العربية للأجانب وقيادة السيارات. كما أنه ليس غريبا أن يعمل البعض في مهنة ثُم ينتقل إلى مهنة أخرى بعيدة في الظروف والمهارات عن الأخرى.

الحاصل أن الكثير من المهاجرين العرب يبدلون أعمالهم ووظائفهم بشكل مستمر، وليس غريبا أن تجد طبيبا أو عالما ينتمي إلى أصول عربية بدأ حياته في الولايات المتحدة كبائع صحف أو طباخ أو سائق.

وسبق أن كشفت المذكرات المشتركة التي كتبها عالم الاقتصاد المصري جودة عبدالخالق وزوجته الدكتورة كريمة كريم بعنوان “حكاية مصرية”، وصدرت العام الماضي، كيف عمل خلال سنوات دراسته في الولايات المتحدة في وظيفة بائع كتب وطباخ، وكيف عملت زوجته، وهي من أسرة أرستقراطية في مصر، مربية أطفال وممرضة.

وعلى حد تعليق سابق أدلى به جودة عبدالخالق لـ”اخبارنا الجالية ”، لم يكن الأمر مخجلا في تصوره، بل إنه يدعو إلى الفخر ويمثل رسالة تحفيز لكل شاب عربي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: