حريق كاتدرائية نوتردام الباريسية يثير المشاعر ويدفع العالم للتضامن
أثار حريق كاتدرائية نوتردام في العاصمة الفرنسية موجة حزن وتعاطف في مختلف دول العالم بالإضافة إلى المساندة من قبل مختلف الأوساط الدينية، وتوج هذا التعاطف بحملات دعم دولي للمساهمة في إعادة ترميم هذا المعلم التاريخي والسياحي، رغم أن عملية الترميم ستكلف كثيرا ووقتا طويلا بحسب خبراء الهندسة المعمارية.
صب رجال الإطفاء المياه على الأطلال المحترقة لكاتدرائية نوتردام في صباح اليوم التالي لحريق هائل التهم الكاتدرائية التي تقع في جزيرة إيل دو لا سيت في نهر السين وسط باريس، ويعود تاريخ بنائها للعصور الوسطى.
وتعد الكاتدرائية واحدة من أكثر مناطق الجذب السياحي شهرة في العاصمة الفرنسية، ويزورها من 12 إلى 14 مليون شخص في السنة، أي ما يعادل أكثر من 30 ألف زيارة يوميا.
وأكدت السلطات أنها تستبعد فرضية أن يكون الحريق عملا متعمدا مع بدء تدفق التبرعات لإعادة بناء هذا الصرح التاريخي.
وأثارت هذه الحادثة مشاعر الحزن لدى الحاضرين الذين واكبوا الحريق، الذي شهد ردود فعل وتضامن دولي من قبل الساسة والأجهزة الدينية كالفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية في القدس وجامع الأزهر.
هل تصمد أيقونة باريس
شيدت نوتردام على أنقاض كنائس سابقة، تحت حكم أسقف باريس موريس دي سولي في 1160، وانتهت الأشغال بعد قرنين تقريبا، في 1345.
وجاء تصميم الكاتدرائية ضمن فن العمارة القوطية التي برزت بأشكال هيكلية مميزة وبتعبيرية جديدة في أواخر القرون الوسطى.
وجلبت زخارف الكاتدرائية، إضافة إلى التأثيرات المعمارية للضوء والظل مستويات جديدة من الطبيعة إلى التقاليد القوطية، وأصبحت بذلك أيقونة تاريخية لهذا النوع من الفنون المعمارية.
وأعادت رواية فيكتور هوغو في 1831 “نوتردام دي باري” المعروفة باسم “أحدب نوتردام”، إحياء الاهتمام العالمي بالكاتدرائية، وبفضل هذه الرواية، بني برج الكاتدرائية المركزي، الذي انهار بشكل مأساوي في حريق الاثنين، في القرن التاسع عشر وسط جهود ترميم واسعة.
وظل المئات من رجال الإطفاء يكافحون الحريق لمدة ثماني ساعات قبل أن يصبح تحت السيطرة وتمكنوا من إنقاذ برجي الجرس، ويؤوي البرج الجنوبي أكبر جرس في نوتردام المعروف باسم “بوردون”. ويستخدم هذا الجرس في الأعياد الكاثوليكية الرئيسية وخلال الأحداث الكبيرة.
30 ألف زيارة المعدل اليومي للعدد الذي تستقبله كاتدرائية نوتردام من السياح
وقد صنع هذا الجرس قبل أكثر من 300 سنة ويبلغ وزنه 13 طنا فيما يصل وزن ضرابته إلى 500 كيلوغرام.
وتمكنت فرق الإطفاء من إنقاذ الجدران الخارجية للكاتدرائية أيضا، إلا أن السقف الخشبي للكاتدرائية الذي كان يشهد عمليات تجديد وترميم واسعة النطاق انهار، كما انهار برج الكاتدرائية “المستدق” الذي يعود تاريخه إلى ثمانية قرون، ويحوي ثلاث ذخائر في الديك الذي يعلوه وهو جزء من إكليل الشوك وذخيرة عائدة للقديس دوني وأخرى للقديسة جنيفييف. وقال الأسقف باتريك شوفيه كبير قساوسة كاتدرائية نوتردام، إنه تم إنقاذ إكليل الشوك المصنوع من القصب والذهب ورداء يعتقد أن الملك سان لويس ملك فرنسا في القرن الثالث عشر ارتداه.
ويعد إكليل الشوك الذي وضع على جبين المسيح قبيل صلبه بحسب المعتقدات المسيحية، الذخيرة الأهم في الكاتدرائية، وهو مؤلف من “دائرة مصنوعة من النبات مجموعة على شكل حزم مربوطة بخيوط ذهب قطرها 21 سنتمترا كان عليها الشوك”.
وتم الخميس الماضي نقل 16 تمثالا نحاسيا تمثل الرسل الإثنى عشر والإنجيليين الأربعة من البرج المستدق لترميمها فأفلتت من الحريق.
وقال وزير الثقافة الفرنسي فرانك رييستير إن رجال الإطفاء الذين دخلوا الكاتدرائية المحترقة أنقذوا العديد من كنوزها، لكن بعض اللوحات لا تزال في الداخل ومهددة بالتلف بسبب الدخان والمياه.
وأضاف أن بعض القطع الفنية، وبينها قطع مقدسة مثل إكليل الشوك للسيد المسيح ورداء الملك لويس التاسع أو لويس القديس الذي يعود للقرن الثالث عشر، نُقلت في بادئ الأمر إلى مجلس المدينة والآن ستنقل إلى متحف اللوفر المجاور.
وتضم الكاتدرائية ذخائر مقدسة لدى الكاثوليك وثلاث آلات أرغن أهمها الأرغن الكبير المؤلف من خمس لوحات مفاتيح و109 أوتار وحوالي ثمانية آلاف أنبوب، كما تضم عددا كبيرا من الأعمال الفنية و37 تمثالا للعذراء مريم.
وأعلن وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز صباح الثلاثاء أن “خطر النيران قد أبعد”، لكن التساؤلات الآن هي معرفة كيف يمكن لهذا البناء “أن يصمد”.
وقال نونيز خلال مؤتمر صحافي “سيعقد بالتالي اجتماع مع خبراء ومهندسين معماريين من فرنسا لمحاولة تحديد ما إذا كان المبنى ثابتا”.
وإضافة إلى إكليل الشوك تحوي الكاتدرائية ذخيرتين أخريين مرتبطتين بآلام المسيح وهي جزء من الصليب وأحد المسامير المستخدمة في صلبه.
الحزن يخيم على الحاضرين
تجمع المئات من أبناء باريس والسياح على ضفتي نهر السين متابعين الحريق المستعر في الكاتدرائية، وتلا البعض صلوات، وأنشد آخرون أناشيد دينية على نحو متناغم مع مشاعر الحزن التي خيمت على الحاضرين.
وانتشر الحريق بسرعة في سقف الكاتدرائية وامتد إلى قمة البرج العملاق للكاتدرائية الذي انهار على إثر ذلك، ثم سقط السطح كله.
وقالت شاهدة عيان فرنسية تدعى سامنتا سيلفا والدموع تنهمر من عينيها “لدي الكثير من الأصدقاء في الخارج وفي كل مرة يأتون، أطلب منهم الذهاب إلى نوتردام.. زرتها العديد من المرات لكنها لن تكون أبدا كما كانت. إنها رمز حقيقي لباريس”. وبثت التلفزيونات ومواقع التواصل الاجتماعي صورا ومشاهد مؤثرة للنيران تلتهم سقف الكنيسة فيما غطت المكان سحابة كثيفة من الدخان.
وأفاد مراسل فرانس برس في المكان أن المئات كانوا يراقبون بقلق الدخان الكثيف المتصاعد من جسور باريس المؤدية إلى الكنيسة مع انتشار رائحته في الأرجاء.
وقالت ناتالي (خمسون عاما) وهي فرنسية تقيم في لندن “هذا جنون، لا أصدق، أريد البكاء”، فيما علق شخص آخر قائلا “آمل ألا يكون الأمر اعتداء”.
وقالت سائحة أميركية تدعى سوزان هارغروف إنها مصدومة بسبب حجم الدمار، مضيفة “نحن نتحدث عن تاريخ عالمي، عن حضارتنا الغربية، وأيضا عن شيء عالمي بحق.. نوتردام تعني شيئا ما للجميع”.
وتشهد الكاتدرائية خمسة قداديس كل يوم وسبعة في الآحاد، وهي مدرجة على لائحة التراث العالمي منذ العام 1991.
ومن بين المتبرعين الآخرين المستثمر مارك لادريه لاشاريار الذي تعهد بدفع 10 ملايين يورو، وشركة “مارتن اند اوليفييه بوغ” للعقارات. كما تدفقت التبرعات من متبرعين مجهولين ومنظمات من بينها “مؤسسة التراث الفرنسي” الخاصة التي قالت إنها حصلت على تبرعات بقيمة 1.6 مليون يورو. ووعدت مدينة زيغيد بتقديم 10 آلاف يورو لجهود إعادة البناء. وكانت المدينة تلقت تبرعات من باريس بعد الفيضانات المدمرة في 1879.
وقالت رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو الثلاثاء إن المدينة ستخصص 50 مليون يورو، واقترحت عقد مؤتمر دولي للمانحين خلال الأسابيع المقبلة لتنسيق التعهدات لإعادة بناء الكاتدرائية.
وصرح رئيس شركة الخشب الفرنسية أنه سيحاول جمع 1300 عمود من خشب البلوط ستكون ضرورية باعتقاده لإعادة بناء دعامات السقف الذي دمر والمعروفة باسم “الغابة”. إلا أن سيلفين شارلوا من مجموعة شارلوا قال إن العثور على ما يكفي من قطع الخشب الكبيرة ليس بالأمر السهل لأنه لا توجد مخزونات من الخشب المقطع في فرنسا تكفي لهذا المشروع الكبير.
وأكدت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة أنها “تقف إلى جانب فرنسا” في إعادة بناء الصرح الذي أعلنته تراثا عالميا في 1991.
كما عرضت الحكومتان الألمانية والإيطالية المساعدة في إعادة الإعمار، بينما عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يرسل إلى فرنسا “أفضل الاختصاصيين الروس الذين لديهم خبرة واسعة في ترميم صروح التراث العالمي بما يشمل أعمال الهندسة المعمارية التي تعود إلى القرون الوسطى”.وصرح المهندس المعماري المسؤول عن كاتدرائية كولونيا غربي ألمانيا بيتر فوسنيش بأنه يتوقع أن إعادة بناء الكاتدرائية المنكوبة في باريس سوف تستغرق عقودا من الزمن.
وقال “التكهن الآن بالمدة التي تستغرقها عملية إعادة البناء وتكلفة ذلك يعد بمثابة النظر إلى كرة زجاجية، ولكن فقط إذا تمت مشاهدة الصور بالتلفزيون، سيعلم المرء أنها لن تستغرق أعواما فحسب إلى أن يتم القضاء على آخر ضرر بها، ولكن الأمر سيستغرق عقودا”.
رمز الثقافة الأوروبية
أثار الحريق حزنا في مختلف أرجاء العالم وتوالت ردود الفعل من أوروبا وصولا إلى العالم العربي، للتعبير عن الحزن بوصف الكاتدرائية “رمز فرنسا” وتكاثفت رسائل التضامن مع باريس.
وأعرب الفاتيكان عن “حزنه” لاحتراق الكاتدرائية، وقال البابا فرنسيس إنه “قريب من فرنسا ويصلي من أجل الكاثوليك في فرنسا وسكان باريس”، كما كتب المدير المؤقت لدار الصحافة في الفاتيكان، أليساندرو جيزوتي الثلاثاء على تويتر أن “البابا يخص صلواته لكل الذين يواجهون هذا الوضع المأساوي”.
ومن جهتها أكّدت المديرة العامة لمنظمة اليونسكو أودري أزولاي وقوف المنظمة “إلى جانب فرنسا لحماية وترميم هذا التراث الذي لا يقدر بثمن”.
وأبدت الكنيسة الكاثوليكية في القدس تضامنها مع فرنسا، قائلة “إنها تصلي من أجل كاتدرائية نوتردام”.
وأضافت “نعرب عن تضامننا مع الكنيسة في فرنسا، خاصة وأن هذا الحدث يأتي خلال الأسبوع المقدس الذي يسبق عيد الفصح، ونتمنى لهذه الكنيسة كل الخير لها .
وفي العالم العربي، قال شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيّب في تغريدة على تويتر “أشعر بالحزن تجاه حريق كاتدرائية نوتردام بباريس، هذه التحفة المعمارية التاريخية، قلوبنا مع إخواننا في فرنسا، لهم منا كلّ الدعم”.
سنعيد بناء الكاتدرائية
بحسب إحصاء لوكالة فرانس برس الثلاثاء للتبرعات التي تم إعلانها حتى الآن، وصلت التبرعات من الشركات والعائلات الثرية الفرنسية للمساعدة في إعادة بناء كاتدرائية نوتردام، إلى 600 مليون يورو (680 مليون دولار).
ووعد الرئيس إيمانويل ماكرون بإعادة بناء الصرح التاريخي بعد انهيار برج وسقف الكاتدرائية ليل الاثنين/الثلاثاء في الحريق الذي يعتقد أن سببه أعمال الترميم في الكاتدرائية.
وجاءت أحدث التبرعات الكبرى من شركة منتجات التجميل العملاقة “لوريال” وعائلة بيتانكورت المؤسسة لها، والتي تبرعت بـ200 مليون يورو.
وقدمت مجموعة “كيرنغ” الفرنسية للسلع الفاخرة والتي تضم علامات تجارية بينها إيف سان لوران وغوتشي، أول تبرع في وقت متأخر الاثنين مقداره 100 مليون يورو (113 مليون دولار).
وأعقب ذلك تعهد بالتبرع بـ200 مليون يورو من منافستها “ال في ام اتش” وعائلة مؤسسها برنارد ارنو.
كما أعلن الرئيس التنفيذي لشركة توتال الفرنسية العملاقة للنفط تبرعا بقيمة 100 مليون يورو