“الاستهلاك الحلال”.. صفقة الأصولية الإسلامية مع الرأسمالية الأوروبية
ترى الكاتبة الفرنسية فلورنس برجود بلاكلي، صاحبة كتاب “سوق حلال أم اختراع تقاليد” إنه وبتصنيع الأطعمة الحلال، فإن الشركات متعددة الجنسيات قد أعطت للأصوليين يدا قوية في المجتمعات الأوروبية وساعدتهم على بناء جدار عازل ما بين المسلمين وغير المسلمين في البلدان الأوروبية.
هذا الجدار العازل، يمضى إلى أبعد من الآثار الاجتماعية بحسب قول جيل كبيل، البروفيسور بمعهد باريس للدراسات السياسية، والذي يقول إنه وبتضخيم قضية الحلال، “أصبحت هناك عوامل تميّز المسلمين عن غيرهم في المجتمعات الغربية”.
فالحلال إذن هو المعركة الثانية التي ينتصر فيها الأصوليون في أوروبا بعد معركة الحجاب. وهكذا يرى الأصوليون الإسلاميون في أوروبا أن “الاستهلاك الحلال” فرصة تحكم في المجتمعات الأوروبية ومواصلة اختراق المجتمع من الداخل.
هذه الأحكام والاستنتاجات، جاءت على ضوء ما تشهده بلجيكا ومعظم الدول الأوروبية، منذ سنوات، من اتساع ظاهرة محلات بيع مواد غذائية، تحمل ماركة “حلال”، تتوجّه بالأخص إلى مهاجرين من أصول مسلمة.
بالعودة إلى سنوات مضت، وفي سنة 2009 على وجه التحديد، تناقلت وسائل إعلام فرنسية خبرًا يبدو هامشيّا، وهو افتتاح متجر بمنطقة برسين، غرب البلاد؛ يحمل لافتة كُتب عليها كلمة “حلال” علّقها صاحب المتجر على المدخل، كانت وحدها كفيلة لتحويل الأنظار إليه، لتجعل منه قضية رأي عام، وتؤدي إلى تصاعد أصوات سياسية داعية لضرورة احترام مبدأ العلمانية في الجمهورية، وعدم توظيف الدّين لحصد عوائد مالية.
مع حلول 2010، بلغ رقم التّعاملات في سوق “الحلال” بفرنسا 5 مليارات أورو، وهو رقم يتجاوز سقف مبيعات الأغذية البيولوجية، و”الكاشير” (الأكل الحلال عند اليهود)، مما بات يشكّل سوقا مغرية للمنشغلين في مجال الصناعة الغذائية، وفي المطاعم وفي شركات توزيع الوجبات السريعة.
كل هذه المؤشرات السخية دفعت بأكبر المتاجر إلى الاستثمار في المستهلك المسلم، حيث خصّصت متاجر”كارفور” مثلاً، جناحا موسميًا باسم “كارفور حلال”، وسمّت متاجر “كازينو” جناحا مماثلا يعرف بـ”وسيلة”.
هذا القطاع بات يدرّ هوامش ربح طائلة، لذلك لا يتوانى أصحابها على إبراز مظاهر الورع والتقوى مثل التأكيد على ضرورة اللحمة الإسلامية وباستعمال عبارات دينية كـ”ما شاء الله” حتى مع المسلمين غير الناطقين باللغة العربية.
يرتبط مفهوم السياحة في فرنسا وباقي دول أوروبا بالمشروبات الكحولية والملابس الكاشفة على الشواطئ، لا سيما في شهري يوليو و غشت الذي يستغله الفرنسيون للذهاب إلى الأرياف والبحر هرباً من المدن، وبسبب حاجة المسلمين كغيرهم إلى السياحة وعدم انسجامهم مع العادات الغربية، فقد كانوا يختارون الوجهات الإسلامية، كماليزيا وتركيا، غير أنهم ومنذ سنة 2014، لم يعودوا بحاجة إلى ذلك، فـ”السياحة الحلال” وصلت إلى فرنسا أيضاً.
ففي ضاحية تراب الباريسية ذات الغالبية المسلمة، تم سنة 2014 افتتاح أحد الفنادق الحلال حيث يحتوي جميع ما يطلبه السياح المسلمون من العادات الإسلامية، ابتداء من سجادة الصلاة وانتهاء بالمأكولات الحلال، أما الغرف فقد أطلِقَ عليها أسماء أعلام من التراث الإسلامي.
ازدهار هذه الفنادق يدل على مدى تحول “الحلال” إلى سوق ثرية يتفنن به أصحاب المهن المختلفة بسبب الإقبال الكبير عليه. وتكشف أرقام أرباح التعامل بالأطعمة الحلال، سر اهتمام الغرب بالقضية، بعدما رصدت مؤسسات معنية على رأسها منظمة “تور إسبانيا” أن نفقات السائح المسلم توازي ضعف ما ينفقه السائح العادي.
ومصطلح السياحة الحلال تم تداوله بشدة خلال السنوات العشر الأخيرة في أوروبا، وذلك عندما انتبه المعنيون إلى حاجة السائح المسلم لخدمة تحترم أسس وأخلاق الدين الإسلامي، ولهذا جاء مؤتمر قرطبة للسياحة الحلال ليشكل جزءًا من هذا الحراك الواسع، ووضع أسس متفق عليها عن هذا المفهوم الحديث نسبيًا.
الغنائم الأوروبية من السياحة الحلال لم تقف عند غرب القارة في فرنسا، بل امتدت إلى جنوبها الشرقي، حيث استضافت أوكرانيا العام الماضي أول مؤتمر عالمي بشأن السياحة الحلال، في محاولة منها لاستقطاب المزيد من السياح المسلمين من ناحية، ومنافسة الدول العربية بقوة في هذا النوع من السياحة التي تحتل دبي المرتبة الأولى عالميًا فيها من ناحية أخرى، لا سيما أن كرواتيا تحتل مراكز متقدمة في العالم أجمع من حيث الإقبال السياحي، في ظل مؤهلاتها التي تسلحها بكل مقومات وعناصر الجذب السياحية.
في عصر الهوس بالتسوُّق، طال “البزنس”مجال المسألة الدينية التي من المفترض أن تكون مسألة متعالية عن ذلك. وفي هذا الصدد يلخص الكاتب الفرنسي باتريك ميشيل، المسألة بأنّها “ذات علاقة استهلاكية رأسمالية بالدين”. أوروبيا، يقدّم المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث نفسه على أنه هيئة إسلامية مستقلة تتكون من علماء، ويتمثل دوره في إصدار الفتاوى لتوجيه نمط عيش المسلمين في أوروبا ومن ضمن أعماله قدّم المجلس جملة من الفتاوى التي تعنى بمعاملات المسلم الاقتصادية في المهجر الأوروبي.
ويحظى التطرف الجهادي في أوروبا برعاية خاصة من “البزنس”، خاصة وأنه يملأ خزائن الشركات الأوروبية بما يوازي تريليون و370 مليار أورو تحت مسمّى منتجات الحلال، سواء كان هذا الحلال طعاما أو شرابا أو مستحضرات تجميل، ويعتبر هذا العامل أحد الدوافع الرئيسية التي تدفع أوروبا لغض الطرف عن اتخاذ الجماعات الإسلامية من بلدانها مقرا لها، وقد وقعها استهدافها بعديد العمليات الإرهابية.
وفي تقرير بعنوان “الشركات الكبرى تتحالف مع الجماعات الإسلامية” صدر عن معهد جاتستون الأميركي، يقول الباحث دايف مامو “في فرنسا وفى أماكن العمل بدأ الحلال كمصدر ضخم للصراع، فالشركات تواجه بطلب متزايد على الأطعمة الحلال في المقاصف، وبرغم إن الشركات غير ملزمة قانونا بتوفير الأطعمة الحلال فإن بعضها إن لم يذعن لهذا الطلب تخشى أن توصم بأنها عنصرية”.