عبدالعزيز بوتفليقة يقدم استقالته من وراء الكواليس
ماذا ينفع أن يكون “بوتفليقة رئيسا كامل الصلاحيات، وقد خانته القدرات الفكرية والجسدية؟”.
الوزير السابق عبدالعزيز رحابي طرح السؤال عام 2013، بعد تعرض الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، أحد أبطال حرب التحرير، إلى أزمة صحية أبقته مقيدا إلى كرسي متحرك، ليجيب بقوله “زمرة الرئيس تريد أن يكون لها ثقل وكلمة في اختيار الرئيس القادم (..) يضمن لها الاستمرار لتوفير الحصانة لمن لهم مشكلات مع العدالة”.
استطاعت زمرة الفساد أن تعيد انتخاب الرئيس، عام 2014، لتتخذ القرارات نيابة عنه، من خلف الكواليس. فمنذ أن أصيب بجلطة دماغية، لم يظهر بوتفليقة في مناسبة علنية إلا في ما ندر.
تحدث الجزائريون عن سيناريو يشبه سيناريو الحبيب بورقيبة، في الجارة تونس، متناسين وجود خلاف جوهري في ماضي الرجلين.
التونسيون مازالوا ينظرون إلى “الزعيم بورقيبة” نظرة إعجاب، حتى وإن اختلفوا حوله. وبعد الثورة نقلوا تمثالا له من مدخل حلق الوادي إلى مدخل الشارع الرئيس المسمى باسمه في قلب العاصمة.
خرج بورقيبة من الحكم مريضا، لكنه لم يخرج ملطخا بالفساد.
أي ماض للرئيس بوتفليقة، وكيف سيخرج من الحكم؟
أجمعت شخصيات سياسية عديدة في الجزائر، خلال استقدام بوتفليقة في العام 1999، من قبل المؤسسة العسكرية، ليكون مرشح السلطة في انتخابات الرئاسة، على أن عودته ستكون كارثة ومغامرة غير محمودة العواقب.
وورد على لسان رئيس مجلس الأمة، آنذاك، بشير بومعزة، قوله “استقدموه وستعلقون معه”. نبوءة أثبتت الأحداث صحتها بعد 20 عاما.
بدأ بوتفليقة حكمه بعقلية المحليات، مانحا الأفضلية لأبناء الغرب الجزائري، وأرجع ما كان يسمى بـ”عصبة وجدة”، التي عمل الرئيس السابق الشاذلي بن جديد على تصفيتها، للتخلص من الإرث البومديني، واستبدلها بمحور باتنة وسوق أهراس.
لم ينس بوتفليقة ثأره القديم مع أعضاء في جبهة الإنقاذ الوطني، الذين صوتوا ضده لعضوية الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني، ليضطر إلى مغادرة البلاد مهزوما مهانا، فسارع إلى الانتقام منهم.
منذ وصوله إلى السلطة عام 1999، استطاع بوتفليقة تحقيق إنجازات حسبت له، على الصعيد الداخلي، حيث تفاوض على هدنة لإنهاء صراع مع متشددين إسلاميين، سقط فيه نحو 200 ألف قتيل. وانتزع السلطة من المؤسسة الحاكمة التي تكتنفها السرية وترتكز على الجيش.
وبفضل إيرادات النفط والغاز، تحسنت الأوضاع في الجزائر، وعمها قدر أكبر من السلام، وأصبحت أكثر ثراء. وبفضل الحماية التي وفرتها احتياطيات النقد الأجنبي الضخمة، وتخوف الجزائريين من الاضطرابات الشديدة، بعد الحرب الأهلية، تجنبت الجزائر انتفاضات الربيع العربي، التي أطاحت بقادة دول أخرى في الجوار عام 2011.
شرع بوتفليقة في برنامج واسع لتعزيز الدولة الجزائرية، من خلال إصلاح هياكلها القضائية والتربوية، واتخذ جملة من الإجراءات الاقتصادية، شملت المنظومة المصرفية، مكنت الجزائر من دخول اقتصاد السوق، ورفع نسبة النمو.
إلا أن فترة رئاسته الأولى لم تخل من المشكلات أيضا: فضائح مالية (بنك خليفة)، محاباة سياسية، وصفقات مشبوهة، وبالطبع مشكلات مع الصحافة وقمع لحرية الرأي.
مع انتهاء مدة رئاسته الأولى، أعلن عن ترشحه لفترة ثانية، 22 فبراير 2004، مسلحا بمشروع المصالحة، ومراجعة قانون الأسرة، ومواصلة الإصلاحات، ووعود بمكافحة الفساد. ليستمر في الحكم بنسبة 85 بالمئة من الأصوات.
أول متاعبه الصحية، واجهها عام 2005، لينقل إلى مستشفى فرنسي، وسط فوضى إعلامية كبيرة، واتهمت أجهزة الإعلام الرسمية أوساطا أجنبية بنشر الشائعات. لتؤكد الصحف الفرنسية أن بوتفليقة مصاب بالسرطان وأن حياته كانت بخطر واضح.
ونجا من محاولة اغتيال في باتنة، حيث حصل انفجار قبل وصوله إلى منصة شرفية، خلال جولة له شرقي البلاد. خلف الحادث 15 قتيلا و71 جريحا.
سمح لبوتفليقة تعديل أجري على الدستور بفرصة الترشح لفترة رئاسية ثالثة، بعد أن حدد النص السابق للدستور عدد الفترات باثنتين فقط. فأعاد الجزائريون انتخابه في 9 أبريل عام 2009، للمرة الثالثة، بأغلبية 90 بالمئة من الأصوات. ليعلن مباشرة عن نيته الترشح لولاية رابعة، في خضم جدل أثير حول “لا ديمقراطية” القرار، وعن وضعه الصحي، وفساد زمرة شقيقه سعيد. وصاحب الجدل خروج احتجاجات متفرقة في البلاد.
تعرض الرئيس لأزمة صحية للمرة الثانية (أبريل 2013)، إثر جلطة دماغية، لينقل مباشرة إلى فرنسا، ويمضي هناك 80 يوما، عاد بعدها على كرسي متحرك.
ورغم الاحتجاجات والتشكيك بعجزه عن أداء مهامه، فاز بالانتخابات التي أجريت عام 2014 بأغلبية كبيرة، كما جرت العادة، رغم حالته الصحية التي ظهر بها عند دخوله مركز الاقتراع.
وتساءلت صحيفة “نيويورك تايمز”، حينها، عن مصير الرئيس الجزائري، بعد ورود أخبار عن صراع على السلطة داخل الدوائر المغلقة التي تحكم الجزائر.
وذكرت الصحيفة أن القلق يزداد بين الجزائريين، بسبب الغموض الذي يلف مصير بوتفليقة. وقالت إن زمرة، يقودها شقيق الرئيس، قد قامت بانقلاب داخلي، وهي من يقود البلاد ويصدر القرارات.
ونقلت الصحيفة، حينها، عن الأخضر بورقعة، وهو إحدى الشخصيات التي طالبت برؤية بوتفليقة، ومقاتل سابق في حرب الاستقلال، قوله “لدينا شعور أن الرئيس قد اتخذ رهينة من قبل حاشيته مباشرة”.
وعلى مدى فترة طويلة، إلى يومنا هذا، حكمت الجزائر بطريقة مبهمة، يتم فيها التوصل إلى القرارات وراء الكواليس.
حاول بوتفليقة صد موجة الاحتجاجات التي بدأت في 22 فبراير، مطالبة بتنحيه عن السلطة، من خلال التراجع عن قراره الترشح لولاية خامسة.
ومع الهتافات ضد الرئيس، لم يسلم شقيقه ومستشاره الشخصي سعيد بوتفليقة من الهتافات، وهو الشخص الذي يدير البلاد، حيث أشارت إليه صحيفة “فايننشال تايمز″ البريطانية، في تقرير نشر مؤخرا، بـ”حارس البوابة”، وحلقة الوصل مع رجال الأعمال في القطاع الخاص.
وكان سعيد قد أدار الحملات الانتخابية للرئيس في الأعوام 2004، 2009 و2014. كما ارتبط بصداقة وثيقة مع رجل الأعمال البارز علي حداد، الذي أثار اتصال هاتفي مزعوم بينه وبين مدير الحملة الانتخابية الحالي عبدالمالك سلال، حول مواجهة الاحتجاجات في الجزائر، جدلا كبيرا. وتفاعل الجزائريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع محتوى هذا التسريب.
كان سعيد يظهر، قبل مرض الرئيس، بانتظام في المناسبات الرسمية، واقفا إلى جوار شقيقه، ومع تدهور الحالة الصحية لبوتفليقة، رجحت قوى المعارضة أن سعيد هو من يتخذ قرارات التعيينات والإقالات للمسؤولين، ووصفته الصحف الجزائرية بـ”عين السلطان”.
لم يكن بوتفليقة ديمقراطيا يوما، بل جاء وفي نيته أن يحكم مدى الحياة.
“أنا الجزائر بأكملها.. أنا تجسيد للشعب الجزائري”، قالها عبدالعزيز بوتفليقة، بابتسامة متعجرفة، مقاطعا أسئلة صحافيين فرنسيين، بعد استلامه مقاليد الحكم عام 1999.
جملة كان يفترض بها أن تفتح أعين الجزائريين على نوايا رئيسهم الجديد، لكن خسائر الحرب الأهلية التي راح ضحيتها 200 ألف قتيل، تركت جراحا غائرة في صدر المجتمع الجزائري، الذي بات يبحث عن الخلاص، حتى ولو جاء على أيدي دكتاتور يأتون به بأنفسهم.
جاء الجنرالات ببوتفليقة، لإنقاذ نظامهم، وروج له الإعلام الحكومي على أنه “المهدي المنتظر”، الذي سيعيد الاستقرار إلى الجزائر ويخرجها من “عشريتها السوداء”.وعوضا عن ذلك قضى عليهم الواحد تلو الآخر.
استطاع السياسي المخضرم والدبلوماسي المحنك أن يعيد الاستقرار إلى الجزائر بقبضة من حديد. وفي مسعاه هذا، أتاح لمجموعة من العسكر ورجال الأعمال، السيطرة على كواليس الحكم، والإبقاء عليه مجرد رسم وصورة، يتوارون خلفها، ويعبثون بالجزائر والجزائريين.
في مايو عام 2012 قال عبدالعزيز بوتفليقة، في خطاب ألقاه شرق الجزائر “حان الوقت ليسلم جيلي الراية لقيادات جديدة”.
واليوم بعد مرور ثماني سنوات، يقدم رجل الجزائر المريض استقالته، ولكن، من وراء الكواليس.