طريق الحرير الجديدة وسيلة الصين لتحويل بوصلة العالم نحو الشرق
لا يُمكــن إسقـاط المرجعية التاريخية من حسابات المعادلات الجيـُوسياسـية والمتغيرات الـدولية فهي حاضرة في شكل تراكمات سياسية ومعرفية واستشهادات بأحداث تاريخية ومواقف لـشخصيات قيادية، كما نجد هذه المرجعية حاضرة في تأثيث الفضاءات والأمكنـة السياسية في شكل لوحات وبورتريهات وتماثيل لشخصيات تاريخية أو بنايات وجداريات أثريـة؛ وحاضرة أيضا كمؤشر للحاضر والمستقبل من خلال التوثيق والتدويـن سواء من خلال الإنتاجات المعرفية أو كتابات فلسفية وكتب الرحلات والاسفار وأيضا الحروب الــقديمة… وقد شهدنا حضور الثقل التاريخي في أكثـر من حـدث سياسي بــارز، وفي أكثر من تصور يهدف إلى رسم خـرائط مستقبل العالــم السياسية والاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والايـديولوجية.
والملاحظ في أحايين كثيرة أن منطـق المرجعية التاريخية يطغي على قُـدرة أكبر الفاعلين السياسيين والاقتصاديين أنفسهم فيتـدبيـر الأزمات، وتكون العودة إلى التاريخ أساسية من أجل تقوية الحجة وبناء الموقف.
ولنا في الحديث الرائج الــيوم وبــقوة في أكثر من صالون فكري وداخل أوساط السياسة والإعلام والاقتصاد حول “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، أو ما يُعرف بطريق الحرير الجديد، بحيث اقترن التفكير في هذا المشروع الضخم أول الأمر بمن كان لهم السبق في رسم طريق الحرير والتعرف على الشعب الصيني وعلى رأسهم كل من الرحالة الإيطالي ماركو بولــو والرحالة المغربي ابن بطوطة، وهو ما يبرز قدرة المرجعية أو العامل التاريخي على صناعة حاضر ومستقبل الدول والشعوب؛ لذلك فالصين اليـوم وبإطلاقها “مبـادرة الحزام والطريــق”، التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين بينغ سنـة 2013 كمشروع استراتيجي ضخم يدخل في “رؤيــة 2025”، ستـرســم معالم نظـام عالمي جـديد لخمسين سنـة قـادمة.
العولمة الشرقية تمر عبر طريح الحرير الجديد
لقد جاء الإعلان عن هذا المشروع الضخم في تــوقيــت سياسي مفصلي تتداخل فيه مجموعة من المعطيات الجيو ستراتيجية في مختلف دول العالم. ففي أوروبا يتسم السياق الحالي بخلافات حادة داخل دول الاتحاد الأوروبي، وبأزمة البريكسيت التي أضاعت وجهة بريطانيا، وكذا بالأزمة الداخلية لحلف الشمال الاطلسي، وتنامي ظواهر الإرهاب وتصاعد موجة الكراهية ضدالمهاجرين والإسلام وفوبيا؛ أما في الضفة الامريكية فالكل يتابع سياسات الرئيس الأمريكي ترامب المتسمة بالحماية ورفع التعريفات الجمركية والانسحاب من الهيئات الأممية لحقوق الانسان ومن الاتفاق النووي ومن اليونيسكو؛ بينما لا تزال المنطقة العربية تعيش على تداعيات الربيع العربي على جميع المستويات، وتعرف فيه الدول الافريقية هجرة جماعية وصراعات مسلحة وتقلبات مناخيـة ناهيك عن أزمات البطالة وارتفـاع الـدين الخارجي…
في هذا السياق العالم يأتي العملاق الصيني ويطرح مشروع إحياء طريق الحرير الجديدة لرسم خريطة عالمية جديـدة تحول اتجاه العولمة إلى الشرق، وتقدم الصين نفسها لتكـون بديلا عن اقتصاديات الغرب التي انهكتها سياسات التقشف وأعْيتهـا اللازمات الاقتصادية العالمية، وفشلت في التوصل إلى اتفاق حول الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي؛ كما تفرض نفسها بقوة في الأسواق المالية بإدخالهــا للعملة الصينية ” اليوان“ سنة 2016 في سلة المبادلات التجارية في الأسواق العالمية الى جانب العملات الكلاسيكية كالدولار والأورو…، من دون ان ننسى الأدوار السياسية التي أصبحت تطلع بها الصين على الصعيد الدولي مما يجعلها أيضا تكسر موازين القوى المبنية على الثنائية القطيبية وبعدها الأحادية القطبية الموروثة عن سقوط جدار برلين.
من جهة أخرى فإن مبادرة إعادة رسم النظام العالمي الجديــد بقلم صيني، تـعني إعادة النظر في العديد من العلاقات والمؤسسات التي تأسست على مقاس المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ونعني بها ترتيبات جديدة داخل مجلس الامن و مؤسسات الأمم المتحدة في حقوق الانسان والبيئة والمجموعات الاقتصادية للدول السبع ولدول العشرين، وكذا قوانين الأسـواق المالية ومـؤسسات القروض البنكيـة.
تطلبت المبادرة الصينية سنوات عديــدة من الترتيبات والجهد وأيضا تخصيص مبالغ مالية خيالية تقدر بحوالي 900 مليار دولار، بمعنى أوضح فإن الثورة الصناعية والتجارية التي تعرفها الصين تجعها في حاجة الى البحث عن أسواق جديدة للمنتوجات الصينية، وهو ما يفسر اهتمامها بالدول الإفريقيية في مناقشة “مبادرة الحزام والطريق“ داخل “منتدى التعاون بين الصين وافريقيا“ ورفع شعار رابح – رابح، مما توج باستثمارات مهمة في تجهيز وتنويع البنية التحتية للدول الافريقية خاصة التي تتمتع بالموارد والطاقة.
وهكذا فقد جهزت الصين موانئ بكل من مصر والجزائر (ميناءالحمدانية)، وبنت مدنا في أنغولا، وتعهدت ببنــاء مدينة إدارية بمصر، وبنت المسجد الكبير بالجزائر والاف من الكيلومترات من الطرق والسكك الحديدية خاصة بين إثيوبيا وأريتيريا، كما لها مشاريع ضخمة في كل السودان وتونس والمغرب، كما رفعت من معدلات تبادلها التجاري مع الدول الافريقية.
نفس الحاجة إلى أسواق جديدة جعلت الصين تنفتح على العديد من دول أوروبا الشرقية وعلى روسيا ودول البلقان، وإشراكها في طريق الحرير الجديدة، وهو ما سهل لها فتح أسـواق أوروبا أمام المنتوجات الصينية، بل ان حوالي 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي قد وقعت بالفعل اتفاقية طريق الحرير الجديدة وجعلت موانئها وسككها تحت سيطرة شركات الاستثمار والبنوك الصينية.
نحو حرب تجارية صينية أمريكية في الساحة الأوروبية؟
لكــن حضور الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روما لتوقيـع“اتفاقية تفاهــم” مع إيطاليا يــوم 22 مارس 2019، جعل من هذا الحدث محطة تأمل للعديد من الفاعلين في الاقتصاد والسياسة والقانون، وانقسم المحللون بين معارضين لهذا الاتفاق ممن يقولون بضرورة تفاوض الصين مع كل أوروبا وليس إيطاليا منفردة، لأن ذلك يهـدد وحدة أوروبا ويضعف القوة التفاوضية لأوروبا أمام الصين، وتصبح إيطاليا بذلك حصان طروادة لغزو الأســواق الأوروبية انطلاقا من موانئ ترييستي وجنوة وباليرمو؛ وبين مؤيدين للاتفاق الرافعين لورقة المصالح الاستراتيجية الإيطالية، وحسنات جلب استثمارات وامتصاص البطالة وإعمال المصلحة الوطنية، ويتدرعون مصالح مشتركة ومبادلات تجارية ثنائية للصين مع كل من فرنسا وألمانيا، ويتهمون المعارضين للاتفاق الصيني-الإيطالي بالرغبة في توسيع هامش العزل المضروب على إيطاليا من طرف ألمانيا وفرنسا.
من جهة أخرى، وبالرغم من أن 13 دولة من الاتحاد الأوروبي قد وقعت بالفعـل في وقت سابق لاتفاقيات مع الصين، إلا ان بعض المحللين رجحوا الأهمية الخاصة لتوقيع إيطاليا لهذا الاتفاق مع الصين، وهي الأهمية التي تعود بالأساس إلى كون إيطاليا دولة عضو في مجموعة السبع، ومن مؤسسي الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الاطلسي “الناتــو“؛ مما جعل حتى الرئيس الأمريكي ترامب يستشعر أهمية النفوذ الصيني عبر إيطاليا ووجه تنبيها إلى الأخيرة، وتأهبت كل من فرنسا والمانيا لتقليص مخاطر انضمام إيطاليا الى طريق الحرير الصينية بلقائها مع الرئيس الصيني نفسه يوم 26 مارس في قمة أوروبية صينية مصغرة بباريس بحضور أنجيلا ميركل وإيمانيول ماكرون، وكذا ورئيس اللجنة الأوروبي جون كلود جونكير، حيث دعت فرنسا إلى اتفاق صيني أوروبي وخلق ضوابط تحترم الاتحاد الأوروبي، وتحترم معايير أوروبا في مجالات الديمقراطية وحقوق الانسان والبيئة ..
ولعل قلق الدول الغربية من التقارب الصيني الإيطالي له ما يبرره، فالمعطيات المتوفرة تفيد بتوقيع فرنسا لاتفاقية تجارية مع الصين تفوق قيمتها 30 مليار دولار، اثناء زيارة الرئيس الصيني إلى باريس قادما إليها من روما، وبالمقابل فلم تتجاوز قيمة الاتفاقيات التجارية الصينية مع إيطاليا 2،5 مليار دولار فقط، مما يعني ان غايــة الصين من إشراك إيطاليا في طريق الحرير الصينية هي غـاية سياسية واستراتيجية أكثر منها تجارية.
فبفضل إيطاليا يمكن للصين أن تصل إلى قلب أوروبا، وتضع قدما لها في البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من الموانئ الإيطالية مثل باليرمو وجنوة، بمقابل ضخ استثمارات صينية تساعد إيطاليافي الخروج من أزمتها والرفع من معدلات صادراتها إلى الصين لتتجاوز المعدل الحالي أي 13 مليار دولار، وبالتالي التخلص من فكي جيرانها في الشمال ألمانيا وفرنسا ، خاصة بعد توقعهما لاتفاقية أكْـويسْغْـرانا في يناير 2019، كما سيسمح لإيطاليا العودة الى ساحة العلاقات الــدولية كفاعـل مـؤثـر في معادلة الـنظام العالمي الجديـد، كما كانت أيـام الـفنيـزْيـانـو ماركو بولــو.
وإذا كانت التفاعلات السريعة للعلاقات الجيوسياية تجعل من التكهن بمستقبل العالم مهمة صعبة بل مستحيلة، فالواضح أن العروض الاستثمارية المغرية للصين في إطار مبادرة الحزام والطريق وعزمها على غزو الأسواق العالمية، وسياسات الولايات المتحدة برئاسة دونالد ترامب وقوتها العسكرية والإعلامية، وأيضاتقدمها التكنولوجي الذي تقويه منطقة “السليكون فالي“، تفتحالمجال لتوقع حرب تجارية بين العملاقين الأمريكي والصيني، ستكون الغلبة لمن يملك التكنولوجيا المتطورة ولمن يملك أكبر بنك للمعلومات ولمن يملك الطرق البحرية والبرية وكذا الرقمية ولمن يملكأكبر آلة اعلامية.
فالصراع الأمريكي–الصيني يعرف أكثر من ساحة ويشتغل علىأكـثر من أجندة ويستعمل أكثر من آليـة، لذلك فإلب المحللين يجعلون من تاريخ 8 و9 أبريل المقبل حيث تعقد ببيكين قمة الاتحاد الأوروبي والصين، وأيضا تاريخ ماي 2019 موعدالانتخابات الأوروبية، محطات مهمة في هـذا الصراع بين عولمة الغرب بزعامة أمريكا وعولمة الشرق بزعامة الصين.
وبالعودة إلى ثقل المرجعية التاريخية الذي أشرنا إليه في البداية فالتساؤل المطروح سبق وأن طرحه نابوليون بونبارت في المشهد الصيني بقوله “ترك العملاق الصيني نائما، لأنــه إذا استيقـظ سيهـز العالــم”، وهو نفس العنوان الذي وضعه السياسي والدبلوماسي الفرنسي ألان بيريفيت لكتابه الصادر سنة 1973 (منشورات فايارد) والذي جاء سنتين بعد زيارته للصين على رأس وفد برلماني فرنسي لإنجاز تقرير استقصائي عن الصين في أوج ثورتها الثقافية. لذلك نقول بأنه لا يمكن اسقاط المرجعية التاريخية في عملية قراءة الاحداث الدولية والمعادلات الجيوسياسية.