مصير الحراك الشعبي بعد تخلي الجيش الجزائري عن بوتفليقة
تطرح المبادرة التي تقدم بها هذا الأسبوع رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع الفريق أحمد قايد صالح، والمتمثلة في دعوته لتفعيل المادة 102 من الدستور كمقدمة لإعلان شغور منصب الرئيس بغية عزل عبدالعزيز بوتفليقة بطريقة سلسة، مشكلة كبيرة من الناحية السياسية والدستورية معا فضلا عن عدم تطابق هذه المبادرة في جزء كبير منها مع حزمة المطالب التي ينادي بها الحراك الشعبي الذي لم يعد يحصر أهدافه الاستراتيجية في إطار محدود متمثل في إسقاط العهدة الخامسة، وإنما أصبح يرفع سقف هذه المطالب تدريجيا لتمتد إلى رفض بنية النظام الحاكم جملة وتفصيلا، وكذا الدعوة إلى التخلص من كل العناصر التي تتكون منها واجهته و في المقدمة رأسماله البشري.
وتفيد تأكيدات الفريق أحمد قايد صالح بأن دعوته المذكورة آنفا ترمي إلى إنجاز حل استعجالي لإنقاذ البلاد من أي انزلاق خطير بسبب تفاقم الأزمة السياسية التي تتخبط فيها منذ تعرض الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للمرض المزمن، مما أدى إلى تعطّل نشاطه السياسي الطبيعي محليا وفي الساحة الدولية، وجراء تطور الموقف سلبيا بعد إعلانه عن نيته ثم عن قراره خوض الانتخابات الرئاسية للمرة الخامسة.
في هذا الخصوص يرى المراقبون السياسيون أن النطق بمبادرة تفعيل المادة 102 من الدستور من طرف الفريق قايد صالح خطأ دستوري وقانوني، لأن ذلك هو من اختصاص وصلاحيات المجلس الدستوري الذي كان ينبغي أن يجتمع ويتثبت من حقيقة وجود مانع يمنع الرئيس بوتفليقة من ممارسة عمله كرئيس دولة، ثم يقوم بإخطار البرلمان بهذا الوضع ليتخذ القرار ويكلف رئيس مجلس الأمة (الغرفة العليا للبرلمان) بممارسة صلاحيات الرئيس لمدة خمسة وأربعين يوما وبعد ذلك يعلن عن شغور منصب رئيس الدولة إذا توفي الرئيس أو صار غير قادر على القيام بمهامه تماما.
إلى جانب هذا فإنه يفترض أن رئيس الدولة هو وزير الدفاع وأنه هو الذي يعين نائبه الذي يعمل تحت مسؤوليته ويخضع لسلطته، هذا ويفترض أيضا أن لا يتخذ رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع أي قرار قبل أن يوافق عليه رئيس الدولة الذي يحمل أيضا صفة وزير الدفاع في آن واحد.
وتذهب التحليلات المختلفة إلى القول إن تدخل قايد صالح في صلاحيات المجلس الدستوري والبرلمان بغرفتيه (السفلى والعليا) هو إقرار ضمني بسيطرة الجيش المزمنة على مفاصل الدولة وعلى المجتمع السياسي في آن واحد.
وفي المقابل هناك من يحاجج بأن تدخل رئيس أركان الجيش قد أملته عدة أسباب وفي مقدمتها أن شخصية الرئيس بوتفليقة تتميز بالعناد وبالهيمنة على المشهد السياسي رغم مرضه، حيث اعتاد تهميش المعارضة والاستخفاف بالموالاة، كما أنه لم يكن يستمع للمجلس الدستوري أو لمجلس الأمة أو للغرفة السفلى للبرلمان. وهكذا فإن تدخل رئيس أركان الجيش الشعبي ونائب وزير الدفاع، قايد صالح، يدخل في نطاق فتح ثغرة في الطريق المسدود سعيا لحسم المسألة سريعا من أجل وضع حدّ لتراكمات الأزمة وإمكانية انفجارها في وجه الجميع.
متى يتأسس وعي يدرك أصحابه أن النظام الجزائري الذي يطالب الحراك بتغييره ليس مجرد أشخاص في سدة الحكم، وإنما هو ثقافة وقيم وذهنية ترسخ الاستبداد بكل أشكاله ومضامينه المادية والرمزية؟
في هذا السياق هناك تأويلات عدة لإعلان أحمد قايد صالح منذ مدة عن أن الحراك الشعبي سلمي ومتحضر حيث مكنه ذلك من كسب ثقة المعارضة ومكونات الحراك الشعبي، وبذلك صار ينظر إليه كمنقذ من بوتفليقة وحواريه المتحلقين حوله. ويبدو واضحا أن تطور تصدي الحراك الشعبي لقرار الرئيس بوتفليقة بواسطة المظاهرات العارمة، التي لم تعرف البلاد مثيلا لها باستثناء مظاهرات الإسلاميين التي مهدت للصراع على السلطة وأدت بالتالي إلى نتائج وخيمة تتلخص في العشرية الدموية التي كادت تدمر جميع أركان الدولة الجزائرية، قد أفرز معادلة جديدة سوف تكون لها تداعيات معقدة على الحياة السياسية الجزائرية سواء على المدى القصير أو على المدى البعيد.
ووفق أطراف عديدة في المشهد السياسي الجزائري فإنه ينبغي فكّ شفرة ظاهرة الحراك الشعبي الذي تميز على مدى شهر كامل بالسلمية وبتجنب الصدام مع السلطات وقوى الأمن والجيش، وبنمط من التشكيل الأخطبوطي الذي يمتد في كل الجهات أفقيا وعموديا، ولكن دون أن تبرز إلى العلن قيادة روحية أو فكرية أو سياسية تقوده أو تنفذ خططه.
وفي هذا الخصوص يمكن للمحلل السياسي أن يشبه هذا الحراك بحروب المناورات التي تقوم بها حركات المقاومة في سرية كاملة، وهكذا نجد من يتساءل في حيرة: من الذي أنشأ وشكل هذا الحراك الشعبي عبر كامل الفضاء الجغرافي الجزائري؟ وهل هو تلقائي ومشكل ذاتيا فعلا أم أن ثمة تأطير يريد منفذه أن يبقى مثل الشبح حتى لا يخترق أو يضرب من الداخل؟
لا شك أن هذه الأسئلة ستبقى مطروحة ومعلقة في آن واحد لمدة زمنية طويلة، ورغم كل هذه التساؤلات والغموض فإن الحراك الشعبي بكل أطياف مكوناته هو نتاج وعرض لتضخم أزمة الحكم في الجزائر، بدءا من الاستقلال إلى يومنا هذا، وهو أيضا رد قوي على ضعف أحزاب المعارضة التي لم تعرف كيف تبني لنفسها علاقة المصير المشترك مع العمق الشعبي، وكيف تنتج الفكر السياسي الراقي الذي يصنع البدائل ويؤسس للمصداقية.
والسؤال المطروح الآن هو هل سيخرج الحراك الشعبي من التأرجح الوجداني تجاه وصاية الجيش ليواصل مسار التعبئة الشعبية والمطالبة بتغيير راديكالي لكل البنيات المكونة للنظام الحاكم، ولماذا لا يوجد حتى الآن لدى محركي هذا الحراك سوى الشعارات والانفعالات، بدلا من مشروع دولة المجتمع وليس مجتمع النظام ونسقه السياسي العاطل؟ ومتى يتأسس وعي يدرك أصحابه أن النظام الجزائري الذي يطالب الحراك بتغييره ليس مجرد أشخاص في سدة الحكم، وإنما هو ثقافة وقيم وذهنية ترسخ الاستبداد بكل أشكاله ومضامينه المادية والرمزية؟