كيف نواجه الكراهية.. سؤال جوابه في المواطنة الكونية

لا يمكن حصر مفهوم التسامح في حدود جغرافية أو اعتبارات سياسية أو ثقافية لأن مثل هذا التقييد يتناقض مع جوهر المفهوم نفسه وهو الكونية. وتتطلب محاربة الكراهية واقتلاع جذورها إرساء أسس العيش المشترك وتقبل الآخر بكل اختلافاته الدينية والفكرية والأيديولوجية والثقافية، لكنها عملية بدورها مشروطة بإنكار الذات وتقديم التنازلات الثقافية من خلال التحرر من خطابات الاعتزاز بالهوية لأن هوية الإنسان الثقافية تتغير عبر الاحتكاك بالهويات الأخرى خاصة في هذا العصر التفاعلي بكل تطوراته التقنية.

لا يمكن أن نرفض الكراهية حين تكون موجّهة ضدنا بينما نقبلها أو نتغاضى عنها إذا كانت موجّهة ضد الآخرين، والأخطر أن نعتقد أحياناً أن الكراهية تجاه الهويات المغايرة هي ضربٌ من الاعتزاز بالهوية الدينية أو القومية، فلا توجد كراهية خبيثة وأخرى حميدة، ولا كراهية مشروعة وأخرى منبوذة. الكراهية هي الكراهية ولا يمكن أن نتعامل معها بانتقائية وتمييز أو نحاول تكييفها لتكون أداة لحماية الذات أو إثبات الوجود. ولا ينبغي أن نطالب الآخرين بتحمّل مسؤولياتهم في مواجهة الكراهية بينما نأخذ دور المتفرج السلبي. كما أن وقوعنا ضحايا للكراهية لا يعفينا من مسؤولية المشاركة في مكافحتها بل يجعل من هذه المشاركة مسألة وجودية بالنسبة لنا.

وبالتالي فإن التصدي للكراهية التي يدعو إليها اليمين المتطرف ضد المسلمين ينبغي أن يتم في إطار رفض الكراهية بكل أشكالها بغض النظر عن مصدرها أو المستهدف بها. ولذلك لا تبدو منطقية أو مفهومة تلك الدعوة التي أطلقها كتّاب عرب عقب جريمة استهداف المصلين في نيوزيلندا عندما طالبوا الدول الغربية بإصدار قوانين تجرّم “الكراهية ضد الإسلام والمسلمين”.

إنها دعوة إلى التصدي للعنصرية بمنطق عنصري ولمكافحة الكراهية بإذكاء الكراهية ولمحاربة التمييز بإرساء التمييز.  إن مثل القوانين إذا صدرت فإنها ستؤدي إلى تكريس أزمة التعايش بين الإسلام والغرب وخلق مناخ من غياب الثقة والتربّص، وتصبح تهمة “كراهية الإسلام” مثل “معاداة السامية” أداة للاستثمار السياسي والمزايدة من أطراف محلية ودولية تتقدم للحديث باسم الإسلام والمسلمين. وستزيد هذه القوانين المقترحة النقمة على الإسلام في الغرب لأن اليمين المتطرف سيستغلها لإثبات سردياته العنصرية التي ترى أن الإسلام يغيّر وجه العالم الغربي ويفرض سيطرته على النظم السياسية والاجتماعية ويصادر حرية التعبير وحق الاختلاف.

إن مثل هذه التشريعات إذا أقرّت فإنها تقول ضمنيا إن وجود الإسلام يشكّل “أزمة” في الغرب وأن اندماج المسلمين مستعص وأنهم سيبقون إلى الأبد طائفة معزولة تبحث عن المعاملة الخاصة لأنها تفتقد إلى المرونة الثقافية وعاجزة عن التكيّف مع الثقافة الغربية، بمعنى تحميل المسلمين مسؤولية ما يطالهم من كراهية، وهذا ما يريده اليمين المتطرف بالضبط. كما أن مثل هذه القوانين ستؤدي إلى “تطبيع″ الخطاب اليميني المتطرف ضد المسلمين حتى وإن جرّمته وذلك لأنها تكرّس ثقافة انعدام التوافق بين الإسلام والغرب وستجعل الأجيال الجديدة تنشأ على فكرة أن الصراع بين الإسلام والغرب هو أمر واقع.

عولمة التسامح

استصدار قوانين لحماية المسلمين في الغرب يخدم فكر اليمين المتطرف
استصدار قوانين لحماية المسلمين في الغرب يخدم فكر اليمين المتطرف

ليس من مصلحة المسلمين في الغرب استصدار أي قانون حمائي خاص بهم. فمن شأن هذه القوانين تكريس تعريفهم السياسي والقانوني بهويتهم الدينية الفئوية وتأطير حضورهم الاجتماعي دينيا، بما يرسّخ الحواجز الثقافية والنفسية التي تفصلهم عن المجتمع العام ويؤدي إلى انعزالهم واغترابهم وتوفير مناخ يغذي “الإسلاموفوبيا”.

المطلوب تعزيز اندماج المسلمين في تلك المجتمعات وترسيخ تعريفهم كمواطنين ومواطنات على أساس الهوية المشتركة التي تجمعهم بالهويات المتنوعة، وتفعيل دورهم في مواجهة الكراهية والعنصرية ومغادرة عقلية التخندق الثقافي التي تلتقي مع أفكار اليمين المتطرف في النظر إلى وجود المسلمين في الغرب باعتباره “وضعا استثنائيا” وليس جزءا من التنوع الثقافي والتطور الطبيعي للمجتمعات.

لا يمكن لنا كمسلمين أن نحمي أنفسنا من الكراهية إلا بالانخراط في مشروع عالمي لمجابهة الكراهية وأن نتبنى مفهوما كونيا للتسامح، وليس المطالبة بتفصيل قوانين مكافحة الكراهية على مقاسات فئوية وإثنية محددة.

وكما تتضافر جملة من الأيديولوجيات والسياسات الدينية والقومية المتطرفة من مختلف المشارب الثقافية على “عولمة الكراهية” في هذا العصر، فإن لا خلاص للمسلمين اليوم، ومعهم كل الهويات الإثنية، من التطرف إلا بالمشاركة الفاعلة في “عولمة التسامح” والتي تعني تحويله إلى قيمة حقوقية وثقافية كونية عامة وشاملة. وذلك لأن التسامح بطبيعته مفهوم لا يمكن تقييده بحدود جغرافية أو محددات سياسية أو ثقافية لأن هذا التقييد يتناقض مع جوهر المفهوم نفسه.

تقول الفيلسوفة التركية سيلا بن حبيب، في تعريفها للكوسموبوليتية، إن “البشر شخصيات أخلاقية لها الحق في الحماية من طرف القانون، وليس ذلك انطلاقا من الحقوق التي يتمتعون بها كمواطنين أو أعضاء في مجموعة إثنية ولكن ببساطة كبشر”. وتوافقها رئيسة الوزراء النيوزيلندية، جاسيندا أردرن، الرأي عندما تقول في سياق دعوتها إلى “حملة عالمية ضد العنصرية” إنه “إذا أردنا أن نعيش في عالم آمن ومتسامح للجميع، لا ينبغي أن ننظر إلى الأمر من منطلق الحدود”.

نكران الذات

حين نطالب كمسلمين قادة الغرب بالاقتداء برئيسة الوزراء النيوزيلندية في محاربتها للكراهية ضد المسلمين، فإن علينا أيضا كمجتمعات مسلمة مسؤولية التعلّم من الدرس النيوزيلندي في تجفيف منابع الكراهية والاتعاظ من تجربة نيوزيلندا في الدفاع عن التعايش والتي تجسّدت في قدرة الأغلبية البيضاء فيها على نكران ذاتها الإثنية والتحرّر من النرجسية الثقافية في سبيل طمأنة الأقلية المسلمة.

فهل يعلمنا هذا الدرس كيف نتعامل مع الأقليات الدينية كالمسيحيين والبهائيين والإيزيديين والصابئة واللادينيين في مجتمعاتنا ذات الغالبية المسلمة؟ لا بل هل يعلّمنا كيف نتعامل مع أولئك المسلمين الذي يرغبون في العيش بأنماط حياة مغايرة للطريقة التي اختارتها الأغلبية؟! إن الكثير من الصراعات الدينية والإثنية والثقافية يمكن تخفيف حدّتها والتقليل من تداعياتها على السلم الاجتماعي لو تحلّى أحد طرفي النزاع بشيء من نكران الذات على الصعيد الثقافي والقدرة على تقبّل ثقافة الطرف الآخر والتعايش معها، وربما تقمّص بعض عناصرها حتى وهي تتعارض مع خصوصيته الثقافية.

ولا يعني نكران الذات الثقافي هنا التخلي عن الهوية ولكنه يعني العيش بتناغم مع الآخرين والقبول بالشراكة معهم في الفضاء العام والنظر إلى خصوصياتهم باعتبارها أساليب حياة وخيارات اجتماعية وسلوكية ما لم تتعارض مع القانون وحقوق الإنسان؛ وليس النظر إليها بعقلية عدوانية أو تكفيرية، أو إصدار أحكام أخلاقية إقصائية ومتطرفة عليها.

التصدي للكراهية التي يدعو إليها اليمين المتطرف ضد المسلمين ينبغي أن يتم في إطار رفض الكراهية بكل أشكالها
التصدي للكراهية التي يدعو إليها اليمين المتطرف ضد المسلمين ينبغي أن يتم في إطار رفض الكراهية بكل أشكالها

لم ينكر المجتمع النيوزيلندي الجريمة التي طالت المسلمين في حادثة مسجدي كرايتستشيرش، ولم يأخذ موقف الدفاع عن الذات أو تبرير الجريمة بل سارع إلى إنكار ذاته عابرا كل الفوارق الدينية والإثنية والثقافية التي تفصله عن المسلمين، وبادرت النسوة إلى ارتداء الحجاب تعاطفا وتضامنا في تخل رمزي عن هويتهن الثقافية في سبيل التعبير عن التمازج مع الآخر الذي يحمل هوية مغايرة.

قد تكون أفضل طريقة للحفاظ على الهوية هي التحرّر قليلا من قيودها وأعبائها وإدراك أن الهوية تكتسب حيويتها من خلال التفاعل الإيجابي مع الهويات الأخرى وليس عبر العزلة. لذلك لم تجد المواطنة النيوزيلندية غضاضة في ارتداء الحجاب الذي ينتمي إلى ثقافة أخرى، ولم يجد أحد القساوسة حرجا في ارتداء جلباب إسلامي، ولم يعتبر أي منهما ذلك تنازلا عن الهوية أو خيانة للفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. مثل هذه المبادرات تعكس المرونة الثقافية والقدرة على تقديم “تنازلات ثقافية” من أجل حماية الأمن الاجتماعي والتعددية وإنقاذ الذات والآخر في آن معاً.

الكثير من العادات والتقاليد والأزياء بات يُطلق عليها وصف “إسلامية” وأصبحت جزءا من مفهوم “الثقافة الإسلامية” رغم أنه لا يوجد في الإسلام ما يثبت بشكل قطعي أنها فروض دينية ومنها ما هو محل خلاف، وهناك مسلمون لا يلتزمون بهذه التقاليد والرموز ولا يُعدّون كفرة أو خارجين من الملّة. يعني ذلك أن الثقافة الإسلامية شيء والإسلام شيء آخر، ونسبة كبيرة مما نسميه “خصوصية ثقافية” للمسلمين هي خيارات فقهية واجتماعية وثقافية وبيئية وشخصية قابلة للتكييف وإعادة الإنتاج كي تكون أكثر اندماجا في الإطار الكوني.

وبالتالي فإن المسلمين بحاجة إلى تقديم “تنازلات ثقافية” اليوم أكثر من أي وقت مضى كي نكون أكثر كفاءة في التفاعل مع الثقافات الأخرى على المستوى الكوني. هذه التحوّلات الثقافية والسلوكية المرغوب فيها تجعلنا أكثر اندماجا في العصر والعالم وليست تجرؤا على الإسلام أو محاولة لتغيير تعاليمه، فالخصوصية الثقافية التي نعيش بها كمسلمين اليوم هي نتاج تأويلاتنا للنصوص الدينية عبر التاريخ.

وكما أنتج التأويل أنماط الثقافة الإسلامية الراهنة التي يعيق العديد منها اندماجنا ويجعلنا هدفا لكراهية اليمين المتطرف ويجعل أبناءنا عرضة لإغواء الفكر الإسلامي المتطرف فإن التأويل أيضا قادر على إنتاج ثقافة إسلامية جديدة تدعم اندماجنا في العالم وتحمي مجتمعاتنا من التطرف المعاصر بنسختيه الداعشية واليمينية المتطرفة.

إن القدرة على امتلاك إرادة تقديم التنازلات الثقافية تحمل دلالة الثقة والانفتاح والتسامح وليست مؤشرا على الهزيمة الحضارية والثقافية. لكن الذي يجعلنا ننظر إلى التنازل الثقافي باعتباره “انهزامية” أمام الآخر يرجع إلى أننا ننظر أصلا إلى العلاقة بالآخر بوصفها صراعا حضاريا لا هوادة فيه.

يقول الأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب إن “الخصوصيات الثقافية المرنة هي التي أنتجت حضارات وثقافات قادرة على الاستيعاب والاستفادة من تجارب الآخرين”. وأشار إلى أن التجربة التاريخية للحضارة العربية الإسلامية قدمت فهما للخصوصية الثقافية الإسلامية يقوم على الانفتاح والثقة بالنفس بخلاف ما يسود في الخطاب الإسلامي المعاصر من تصور للخصوصية يتسم بالانغلاق والجمود.

من حق كل إنسان أن تكون له خصوصيته الثقافية ولكن تقع عليه أيضا مسؤولية إدارة هذه الخصوصية بشكل حضاري وتفاعلي في مجتمع متعدد، فالتواصل التفاعلي بين الأفراد والجماعات وعبر الثقافات هو سمة هذا العصر ولم يعد بالإمكان المحافظة على الخصوصية الثقافية إلا من خلال تفاعلها مع الخصوصيات الثقافية الأخرى في المجتمع والعالم.

المرونة الحضارية

من حق المسلمة مثلا أن تعتقد بوجود علاقة ما بين الحجاب والفضيلة الأخلاقية، ولكن عليها أن تدرك أيضا أن مفهوم الفضيلة نفسه ليس كونيا وأنه نسبي ومتغيّر من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى وأنه يتباين حتى على مستوى المجتمع الواحد والثقافة الواحدة، وهذا ينطبق على العديد من المفاهيم القيمية. لقد كان ارتداء النساء النيوزيلنديات غير المسلمات الحجاب خطوة اندماجية من الأغلبية تجاه الأقلية جاءت في شكل من التماهي الثقافي مع المسلمين تعبيرا عن التعاطف معهم في المحنة، وعكست مرونة ثقافية لدى الأغلبية.

الصراعات الدينية والثقافية يمكن التقليل من تداعياتها على السلم الاجتماعي لو تحلّى أحد طرفي النزاع بشيء من نكران الذات على الصعيد الثقافي والقدرة على تقبّل الآخر

والرد الأمثل من الأقلية المسلمة في نيوزيلندا وكل المجموعات المسلمة في العالم الغربي على هذه التحية الحضارية هو أن تتحمّل هذه الأقليات مسؤولياتها في التكامل الحضاري والتماهي الإنساني مع المكونات الأخرى التي تتعايش معها. التماهي الكوني والإنساني هنا لا يعني الذوبان أو تبديد الهوية الذاتية أو الخضوع للاستلاب الثقافي، ولكنه تبنّي ثقافة “المواطنة المعولمة” ومغادرة الإطار الفئوي الذي يعزلنا عن الآخرين في المجتمع إلى الإطار الكوني الذي يجمعنا بهم وبغيرهم في مجتمعات أخرى، وعدم الارتهان لعقلية “الغيتو” وثقافة “الجالية” أو “الأمة الأحادية”.

إن صيانة العيش المشترك تحتاج إلى ترويض مشاعر التفوّق الديني والإثني والتحلّي بقدر من التواضع والموضوعية في إدراك الاختلافات بين الثقافات وتقبّلها. كما تحتاج إلى التحرّر من خطابات الاعتزاز بالهوية والتمسّك بالعقيدة والحفاظ على الثوابت الدينية والثقافية؛ فهوية الإنسان الثقافية تتغيّر وتتحوّل بصورة دائمة وهي في حالة تشكُّل مستمر عبر الاحتكاك بالهويات الأخرى تناغما أو تصادما.

إن من شأن مفاهيم وسياسات عولمة التسامح والمواطنة الكونية والمرونة الحضارية والخصوصيات الثقافية التفاعلية أن تحوّل العالم إلى مجتمع كوني تعددي ومنفتح كبير ومتشابك ويحمل هوية إنسانية مشتركة، لينطبق عليه تعريف الفيلسوف البريطاني كوامي أنتوني أبيا للمجتمع الكوسموبوليتي بأنه “المجتمع الذي ينتمي أفراده إلى أماكن مختلفة ويرتبطون بعلاقات احترام متبادل بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو آرائهم السياسية”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: