كلمتان تغضبان الجزائريين
“الجهوية” و”العلمانية”، هما الكلمتان اللتان تثيران حنق الجزائريين برمتهم، أو غالبيتهم، وعلى اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية، هي حالة سيكو-ذهنية طاغية في المخيال الجزائري المعاصر.
ومع ذلك فالمفهومان السياسيان والفلسفيان يمكنهما أن يكونا المفتاح لكثير من المشكلات التي تؤرق حياة الجزائريين.
في رحم هاتين الكلمتين يكمن الجواب الشافي لكثير من الأعطاب، ما يتصل منها بأزمة العقيدة والحكامة وقضية الهوية، وهي أمور تؤرق الجزائريين في بلد غني بالثروات الطبيعية والبشرية، بلد يقوم على مساحة قارة.
ولأن النظام السياسي الجزائري، ومنذ الاستقلال، يعتمد على الشعبوية كفلسفة أوتوقراطية في إدارة الشأن العام، فقد تعامل مع هاتين الكلمتين بالحذر والتحذير والرفض.
تمثل كلمة “العلمانية” غولا مخيفا في ذهنية الجزائري، فبمجرد التلفظ بها تحيل لديه إلى”الإلحاد”، وبالتالي كل “علماني” هو “معاد للدين”، “مرتد”، “يهودي”، “شيوعي”… وهي المترادفات التي يحملها الجزائري في تأويلاته لـ”العلماني”.
لكي يحافظ النظام السياسي على سلطته يدفع بقوى الشعبوية الدينية التي تحتل منابر المساجد والمدارس إلى محاصرة “العلمانيين” بتهم التكفير والتخوين والتهويد.
إن الشعبوية الدينية هي أشد أعداء الدين وهي التي تفرغه من أبعاده الروحية والثقافية، لتقدمه لاحقا “غنيمة” لـ”الدروشة الاجتماعية والسياسية”، يظهر ذلك من خلال دجالي “الرقية الدينية” وزعماء الأحزاب السياسية الدينية.
إن العلمانية هي إطار نظامي وقانوني للحكامة المدنية، هي حماية الدين من التلوث السياسي والمتاجرة المؤسساتية بفصل الدين عن الدولة، وهي الحارس الفطن الذي يحمي حقوق المواطنة داخل الفضاء العمومي دون تمييز.
في الجزائر، اعتمادا على البرامج المدرسية ذات المضمون الديني الإخواني، وعلى وسائل الإعلام القائمة على الدعاية والزبائنية وعلى الأحزاب السياسية التي تولد مترهلة بالحس الشعبوي الديني أو “الوطنياتي” فاقد الصلاحية، يشن النظام حربا معلنة ضد العلمانية، لا لشيء إلا لأنها طريق تحرر الإنسان من “التطرف” والسبيل إلى المواطنة وحرية المعتقد، وهذا يمثل خطرا على وجوده المؤسس على الشعبوية السياسية والدجل الديني.
إن “فوبيا العلمانية” سلاح يستعمل ضد كل استفاقة واعية تدعو إلى الدفاع عن حقوق المواطنة.
أما الجهوية أو “المناطقية” فهي مفهوم سوسيو-سياسي يثير الخوف لدى الجزائريين، ولم يفكر فيه أي نظام سياسي كطريق للتنمية الاقتصادية أو وسيلة لتدبير الشأن الإداري والمؤسساتي والثقافي والهوياتي واللغوي.
في الجزائر، بمجرد الحديث عن “الجهوية” أو “المناطقية” فذلك يعني “تهديدا” للوحدة الوطنية، وكل من يدافع عن هذا الاختيار يصنف في خانة أعداء الوطن. ومع ذلك فالجهوية الإيجابية الموسعة أي “المناطقية”، هي الإطار المؤسساتي السياسي والثقافي القادر على الحفاظ على التنوع داخل البلد الواحد، والذي يسمح بتوزيع عادل لثروات الأمة بين المواطنين، وبتنمية العبقرية المحلية ويحمي التعددية المسؤولة، وهو الطريق لمحاربة فساد النظام المركزي الشمولي، ولإعمال الرقابة الشعبية الفعلية والفاعلة.
والحكامة الجهوية الموسعة والإيجابية هي فضاء يسمح بتفتح الطاقات المحلية الإبداعية الأدبية والسينمائية والمسرحية والموسيقية… وهي صمّام الأمان للوطن القوي. إذ لا وجود لثقافة وطنية مبدعة دون ثقافات جهوية حرة.
إن الأنظمة السياسية “المركزوية” المتعاقبة على الجزائر يسكنها رعب الحكامة الجهوية الإيجابية لأنها تقوم على حقوق المواطنة، وهو ما يفقدها هيمنتها على الأطراف.
وتعتمد الأنظمة “المركزوية” في محاربتها للجهوية الإيجابية على الشعبوية الوطنية التي تعشش في وسائل الإعلام ومنابر الدين وميليشياتها في القواعد السياسية، بالترويج للإسطوانة المشروخة “الوحدة الوطنية مهددة”.
إن الدولة القوية تقوم على المواطنة التي تحميها العلمانية، حيث لا إقصاء، وعلى الحكامة “الجهوية” الإيجابية كطاقة متجددة قادرة على مراقبة تسيير الشأن العام ومحاربة الفساد المركزي. لكن للأسف، فـ”الجهوية” و”العلمانية” مع أنهما القاعدة التي عليها تتأسس المجتمعات الحديثة، إلا أنهما الأكثر رفضا لدى الجزائريين، بل ولدى الشعوب المغاربية والعربية.