مجزرة نيوزيلندا: ثقافة الكراهية والموت في زمن الثورة الرقمية

لا يزال العالم تحت وقع صدمة مجزرة المسجدين في نيوزيلندا، التي ارتكبها الأسبوع الماضي متطرف سفاح يؤمن بتفوق العرق الأبيض، لكن ما يكمن خلف هذا العمل الإرهابي يتخطى الإسلاموفوبيا والتخويف من “الغزو الآتي من وراء البحار” والتمييز العنصري إلى النازية الجديدة، ويندرج كما غيره من أفعال الإرهاب الشنيع وتبرير القتل الجماعي باسم الدين أو العرق أو الاختلاف في سياق تعميم ونشر أيديولوجيا الكراهية وثقافة الموت.

ومما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي تتشارك مع فئة من السياسيين والمنظرين والمنحرفين الدينيين قي تحمل مسؤولية نشر الكراهية والترويج للتطرف. وأولى الإجابات المطلوبة على هذه الظاهرة التدميرية قيام السلطات المعنية بممارسة دورها القانوني والسياسي وإيجاد مدونة سلوك عالمية لضبط وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها، حتى لا تعمم التسمم العنصري والتلوث الفكري. في مواجهة ثقافة الكراهية والموت لا بد من بلورة ميثاق شرف بين الدول والأديان ضد التطرف والقتل الجماعي، على مثال وثيقة “لأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي مهرها بتوقيعهما، في أبوظبي في فبراير 2019، البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب.

للمرة الأولى في عمليات القتل الجماعي تصل الصفاقة بالسفاح ليبث المذبحة بشكل مباشر مستغلا خصائص فيسبوك المنفلتة من قيد الرقابة. هكذا توغل بعيدا في إجرامه مدرب اللياقة البدنية السابق والناشط اليميني الأسترالي برينتون تارانت منفذ الاعتداء الإرهابي على مسجدي مدينة كرايست شيرش بنيوزيلندا، وللوهلة الأولى نظن أننا أمام مختل عقلي متشدد من “الذئاب المنفردة” لكن مع الإعلان عن “المانيفستو” المكون من 16 ألف كلمة الذي يلخص أفكاره في أكثر من 70 صفحة، على موقع “شان 8” مع التماس للمستخدمين بنشر رسالته حول العالم، نكتشف قاتلا مثقفا ومشبعا بأفكار وأيديولوجيات وترهات وخرافات، نشرتها جماعات اليمين المتطرف ورموزه عبر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وأوروبا من قبل. ويتمثل المبرر الأساسي لتارانت نظرية مؤامرة الإبادة الجماعية البيضاء، التي تنص على أن “البيض” يتم استبدالهم بغير البيض في الدول الغربية. وألهم هذه النظرية الفرنسي رينو كامو وأسماها “الاستبدال الكبير” وهذا الربط يدل على أن هذا التيار اليميني النازي الجديد أخذ يترسخ ويشدد على عداوة المسلمين بسبب التمدد الديني والديموغرافي، وهذا ما تنبأ به صموئيل هينتينغتون في نظريته عن “صراع الحضارات والأديان والثقافات” منذ بداية تسعينات القرن الماضي. واللافت أن تارانت يذكر أيضا في وثيقته جماعة “فرسان الهيكل” التي ينتمي إليها أندريس بريفيك، المدان بقتل 77 شخصا في اعتداءين منفصلين بالنرويج في 2011، وزعم أنها كانت “تعرف خطته، وأنه تبرع للكثير من الجماعات القومية وتفاعل مع العديد منها”.

وللتذكير أشار بريفيك حينها إلى أن الهدف مما فعله هو “إنقاذ النرويج وأوروبا الغربية من الانقلاب الإسلامي”، وأضاف إن الهجومين كانا بمثابة “إعطاء إشارة إنذار قوية للشعب”. والمقلق إنه في السنوات الأخيرة تصاعدت تيارات “دواعش الغرب” من نازيين جدد ومعادين للإسلام أو معادين للسامية أو عنصريين بيض وغيرهم.

من تارانت سفاح نيوزيلندا إلى بريفيك سفاح النرويج، وقبلهما مرتكبو الإبادة في رواندا ومنفذو التطهير العنصري في البلقان تطول لائحة الجلادين والقتلة تحت عنوان الكراهية. وبالطبع يوجد على هذه اللائحة القتلة من سفاحي ما يسمى “داعش” وأخواتها تحت عناوين الجهاد المزيف باسم الدين، ولا يستثنى مرتكبو القتل الجماعي من سوريا إلى بورما. وهكذا يتبين أن الإرهاب والتطرف لا يقتصران على دين معين وعلى منطقة معينة. لكن ذلك لا يعفي من تحمل المسؤوليات لمكافحة تفشي هذه الظواهر السرطانية تماما كما فعلت بشجاعة رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، التي تضامنت مع ذوي الضحايا وارتدت حجابا أسود لمواساتهم، وتجاوزت العواطف والأقوال عندما قررت حظر البنادق نصف الآلية لسد الثغرة التي استغلها القاتل.

لم يخرج الاستنكار السياسي عن طور التصريحات المعتادة أو عن المزايدات على الطريقة الأردوغانية أو عن الأسلوب الخجول والملتبس لبعض المعنيين بتبرير هكذا ظواهر، والمطلوب مواجهة هذه الظاهرة بعمقها والتصدي لها، خاصة أن ما يحصل ضد مساجد بريطانيا يثير القلق وأن ردود الفعل التي يمكن أن تحدث ستعيد العالم إلى عصور الظلام والحروب الدينية. إزاء هذا الواقع، تبرز ردود فعل مسلمين عاديين يعتبرون أن “المسلمين مستهدفين من فلسطين إلى بورما والصين والهند وأوروبا وأوقيانيا من قبل أتباع الديانات اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية ومن الملحدين”، وأنه يتم اتهامهم بالإرهاب دون سواهم. يمكن تفهم ذلك بشكل نسبي لكن “الشعور بمظلومية المسلمين” لا يحجب أهمية النقد الذاتي والمكاشفة والتشديد على الاعتراف بالآخر في عوالم الإسلام وأهمية نبذ ظواهر الغلو والتطرف والانحراف الديني والقتل باسم الإسلام مع التخوين والتكفير وهذا يطال أيضا مسلمين من قبل مسلمين آخرين.

ليس المطلوب تعميم ثقافة الكراهية ورفض الآخر واستغلال مكاسب الثورة الرقمية لهذه الأغراض الخبيثة، بل المطلوب بشكل ملح المزيد من الشجاعة الأدبية والسياسية والمعنوية في النقد الذاتي وتنظيم العيش المشترك من قبل النخب السياسية والدينية عند المسلمين وأتباع الديانات التوحيدية والديانات غير التوحيدية وغيرهم. من الناحية العملية تتوجب الإحاطة بأسباب الكراهية: الإرهاب الفكري والتطرف وإقصاء الآخر المخالف ومحاولة وضع البشر في قالب واحد ممّا ينتج نوعا من الصدام الفكري المستمر الذي لا نهاية له. ومن هنا ضرورة الحذر من منصات الإعلام ذات الأهداف السياسية ومن كل المساعي لغرس مفاهيم تكفير المخالف وتخوينه وإباحة إراقة دمه.

لا تنفصل مجزرة المسجدين في نيوزيلندا عن مثيلاتها في دورة العنف الإرهابي وثقافة الموت، وفي موازاة تصدع العولمة وتراجع منظومة القيم الإنسانية، يمثل هذا الفعل الشنيع منعطفا خطرا في تصعيد إرهاب “أبيض” أو “مسيحي” في مواجهة إرهاب “إسلامي”، ويستوجب ذلك إعلان حالة طوارئ ثقافية وسياسية ودينية على مستوى عالمي حتى لا تستمر “قهقهة الجلاد” الذي لم يتردد في كرايست شيرش من التباهي بنقل موته بشكل مباشر، تماما كما في الفيديوهات المريعة لذباحي داعش. لم يفت أوان اليقظة لوقف الانحدار نحو المزيد من المجازر وإطلاق العنان للغرائز البهيمية للبشر، والخطوة الأولى فرض تشريعات عالمية رادعة لوسائل التواصل الاجتماعي تمنع الترويج لأفكار القتل وتضع حدا للاستغلال والاستخدام السياسي للإرهاب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: