كيف تحصل على الهدوء وراحة البال

في مرحلة ما من العمر يصبح كل ما نطلبه من الحياة هو القليل من الهدوء وراحة البال، ويصبح ما عدا ذلك هامشيا. تبدو الأمنية سهلة ويُخيّل لنا أن تحقيقها في المتناول، لكن ما نطلبه، في الواقع، في غاية التعقيد، وهو مرادف للسعادة، ذلك المفهوم المعقد، الغامض، الذي لا يمكن حصره في فكرة محددة.

قليل من الهدوء وراحة البال؛ تعني الكثير من التوازن في الحياة، تعني ألا تكون قلقا بشأن بيتك أو أسرتك، أو دراستك أو عملك أو زواجك أو وضعك المادي أو أبنائك أو صحتك. هي تعني كل شيء في الحقيقة، ذلك أن القليل من راحة البال، على الرغم من قلته إلا أن بلوغه يحتاج إلى الكثير من الجهد والصبر.

راحة البال أيضا تدريب مستمر للنفس على التقبل والرضى، وهو تدريب قاس جدا، يشبه تدريبها على طاعة الخالق مثلا، التي تستوجب نهي النفس عن الكثير من الأشياء وتعويدها على نوع معين من الالتزامات والفروض، كذلك تعويد النفس على راحة البال، ففي النهاية ليس بإمكان أحد أن يوجد التوازن في كل جوانب حياته دفعة واحدة، وليس بإمكان أحد أن يعمل على كل الجبهات بنفس الطاقة والحماس، فمن ساعدته ظروفه المادية قد تخونه الصحية، ومن توفرت له أسباب الراحة في البيت لا تتوفر له أسباب الراحة في العمل، والعكس صحيح.

ولا بد أن جميعنا قد تساءل بينه وبين نفسه يوما، أين تكمن السعادة؟ وأين أجد راحة البال؟

قديما علمونا أن “القناعة كنز لا يفنى” وأن الرضى سر الحياة الأكبر ومفتاح السعادة الدائم، الذي بواسطته نفتح كل الأبواب، وفي فترات متفاوتة من حياتنا انتفضنا- جميعنا على هذه القناعات التي تسعى من وجهة نظرنا إلى تخديرنا وتغييبنا عن الواقع وتعويدنا على الخضوع والقبول بما هو أقل مما نستحق.

حتى الثورات التي نراها تنبثق اليوم في كل مكان من العالم العربي، فإن شعارها الأول هو “لا لاستغفالنا بعد اليوم” و”نريد حقنا كاملا”، فالقناعة والرضى استعملا طويلا كأداة لتكميم الأفواه ومنعها من المطالبة بالمزيد.

ولتحقيق هذا الهدف تم توظيف الدين كإحدى أهم الوسائل الداعية إلى الاكتفاء بما “كتبه الله لنا” وعدم المطالبة بما يزيد عليه، فالله وحده هو من “يوزع الأرزاق ويمنح الصحة ويحمي الأولاد وييسّر الحال”.

ورغم أن الأمر قد نجح فعلا في تخدير البشر وإلهائهم عن المطالبة بما هو حق لهم منذ هيمنة الكنيسة في القرون الوسطى وحتى الآن، إلا أن ظهور المحتجين والمنتفضين والغاضبين والمطالبين بالمزيد في كل مكان هو دليل على أن القناعة والرضى يتنافيان مع طبيعة البشر ورغبتهم الدائمة في تحسين وضعهم ووضع أبنائهم وسعيهم الدؤوب نحو الأفضل.

هل الحصول على الأفضل إذن هو ما يمنحنا السعادة وراحة البال؟ ولكن ما هو هذا الأفضل، وإلى أي مدى يمكننا أن نعتبره أفضل؟ وهل ما نراه الآن أفضل سنراه غدا كذلك؟

الحقيقة أن معادلة السعادة وراحة البال، رغم ما تبدو عليه من بساطة، إلا أنها المعادلة الأصعب على الإطلاق، وقد تكون مستحيلة.

وشخصيا أعتقد أن راحة البال ومعها السعادة باعتبارها مرادفا لها، لا تكمن في القناعة والرضى، ولا في نقيضهما أي في بلوغ الأفضل، ولكن في السعي نحوه. وهذا السعي الدائم، والاجتهاد الذي يميز حياتنا هو ما يضفي عليها صبغة السعادة، لأنه -من ناحية- يحفز التفكير الإيجابي لدينا، ويدفعنا نحو التطلع والطموح والمثابرة وهي صفات صحية من شأنها أن تنعكس إيجابا على كل جوانب حياتنا المادية والنفسية، فضلا عن المكاسب “الصغيرة” التي نجنيها في هذه الرحلة  نحو الأفضل والتي لا تشكل هدفا في حد ذاتها إلا أنها لا تقل أهمية عن الهدف السامي الذي نسعى إلى بلوغه.

الأفضل في الحقيقة غير موجود لأن هناك دائما ما هو أفضل منه، والحصول عليه مثل الحصول على السراب، خدعة مستمرة لا تلبث أن تنكشف بمجرد أن نقترب منها، لكن هذا لا يجب أن يمنعنا من التوجه نحوه، وقضاء حياتنا في محاولة بلوغه لأن الطريق إلى السعادة هو السعادة نفسها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: