التمييز بين المخادعين والصادقين ليس سهلا
لا يزال موضوع الكذب والخداع يحظى باهتمام واسع في أوساط علماء النفس، خاصة ما يتعلق بالتبعات القانونية المترتبة على صعوبة الكشف عن الخداع في إفادات الشهود والمتهمين. وفي دراسة حديثة أشرف عليها باحثون في جامعة بيرغامو الإيطالية، لبحث إمكانية الكشف عن المخادعين من خلال مقارنة أكاذيبهم ببيانات أخرى كانوا أدلوا بها خلال محادثات وقعت في أوقات وأماكن متقاربة، أظهرت النتائج أن إشارات الخداع التي تم اختبارها في الأساليب التجريبية من قبل علماء النفس، باهتة وغير موثوق بها وأن رواة الحقيقة والكذابين لا يختلفون عن بعضهم كثيرا.
أظهرت نتائج الدراسة أن أفراد الشرطة الذين يشرفون على استجواب المشتبه بهم ليسوا مدربين بصورة كافية لاستنباط الحقائق في طرق إدارتهم لهذه المحادثات المهمة.
ويعتمد المحققون القضائيون في العادة على إثارة الأسئلة العادية المراوغة وغير المهمة مع المشتبه بهم في استئناف جلساتهم مع المتهمين في قضايا جنائية، تتبعها مباشرة الأسئلة التي تهدف إلى كشف الحقيقة أو التعرف إلى ملابساتها إذا أمكن، ثم يستنبط المحققون بعض النتائج من خلال مقارنة ردود أفعال المشتبه بهم في استجابتهم لنوعي الأسئلة؛ سلوكهم أثناء حديث بسيط وسلوكهم أثناء التحري عن تفاصيل معينة، حيث يسجل التغيير الذي يلاحظ في طريقة رد الفعل في الحالتين باعتباره مقارنة دقيقة قد لا تكون في صالح المتهم في جميع الأحوال.
ورصد الباحثون في جامعة بيرغامو بعض نقاط الضعف في هذا النوع من الاستراتيجيات المتبعة في التحقيقات الجنائية، إذ أن التفاوت العددي والكثافة بين حصص الأسئلة البسيطة والأسئلة التي تهدف مباشرة إلى موضوع القضية كبير جدا لصالح الجزء الثاني وبصورة تبدو مقصودة تماما، إضافة إلى أن المشتبه بهم يعلمون ذلك جيدا ما يجعلها طريقة غير موثوقة، حيث يمكنهم التغطية على حقيقة ما أثناء الاستجواب بأسئلة روتينية يعرف بأن الهدف منها غير مباشر وينطوي على نية مبيتة لصالح التعرف إلى الحقيقة، وسيصبح من السهولة لمجرم محترف أن يتنصل من فخ هذا النوع من الأسئلة الواضحة.
من ناحية أخرى، قد يدفع هذا النوع من الاستجواب شخصا بريئا إلى التعبير عن مزاج غاضب حتى أثناء قوله الحقيقة، وربما يصبح أكثر غضبا عندما تأخذ الأسئلة منعطفا خطيرا وهذا ليس بالضرورة دليلا على إدانته، فالسلوك اللحظي لأي شخص يمكن أن يمرّ بهكذا موقف، لا يمكن أن يستدعي حكما موضوعيا وقاطعا على هويته الشخصية.
الأحاديث القصيرة التي تتخلل حواراتنا مع أناس نشك في نواياهم تجاهنا، لا يمكن أن تفصح عن حقيقتهم أو دواخلهم
هذا الأمر يمكن أن يسري على حياتنا الاجتماعية والخاصة، فالأحاديث القصيرة التي تتخلل حواراتنا مع أناس نشك في سلوكهم ونواياهم تجاهنا، لا يمكن أن تفصح عن حقيقتهم أو دواخلهم لأنهم ببساطة يمكن أن يستخدموا أسلوب المراوغة في اللحظة ذاتها، التي يشعرون فيها بأننا نستهدفهم لمعرفة حقيقة أبعد في مدياتها بكثير من مجرد حديث عابر، يبدو وكأنه حوار ساذج يتضمن أسئلة روتينية.
يرى أستاذ العلوم النفسية أوسان ويتبورن والأستاذ المساعد في قسم علم الشيخوخة في جامعة ماساتشوستس في بوسطن، أنه من الممكن أن يمنح الكذب في الأحاديث الصغيرة الفرصة للكاذب لإعادة ترتيب أفكاره، في الوقت الذي يجيب فيه بغير دقة عن هذا النوع من الأسئلة التي لا تضره بشيء، في حين يعيد تجميع أفكاره وقوة تفكيره لمواجهة ما هو أصعب من الأسئلة وأكثر أهمية، تلك التي تمثل خطرا حقيقيا.
على العكس من ذلك، عندما يلجأ المحقق إلى التركيز على مجموعة من الأسئلة تتمحور حول حادثة معينة، فهذا يتسبب في استنزاف لإدراك الشخص المقابل ويضع حملا كبيرا على ذاكرته لاستيعاب التفاصيل الدقيقة بمجملها، وفي الوقت الذي يتوجب عليه أن يركز في القابل من الأسئلة سيكون قد استنفد طاقته الاستيعابية، فيصبح مشتتا بين الاحتفاظ بالتفاصيل التي كذب بشأنها أثناء مراوغته في التعامل مع حقائق أخرى، وستكون ذاكرته في هذه الحالة مشوهة وبالتالي فإنه يميل إلى ارتكاب الأخطاء وإعادة سرد تفاصيل متناقضة في السيناريوهات ذاتها.
يؤكد متخصصون أن إشارات الجسد مثل حركات اليدين والرأس وإيماءات ملامح الوجه، لم تثبت فاعليتها في الكشف عن كذب صاحبها، فالمحتوى اللفظي أكثر تشخيصية من السلوك غير اللفظي بمعنى أن هناك رهانا وخيارا أفضل يتمثل في طرح أسئلة مفتوحة يمكن أن نحصل من خلال نسيجها على حقائق معينة هي التي نبحث عنها.
يقول الخبير في جهاز كشف الكذب وأستاذ علم النفس بجامعة برانديز الأميركية ليونارد ساكس “لقد كان الكذب منذ فترة طويلة جزءا من الحياة اليومية. لم يمر يوم في حياتنا من دون أن نكون مضللين ومخادعين”. حتى وقت قريب، يضيف ساكس، تم تجاهل الكذب من قبل علماء النفس ليترك الأمر برمته تحت مسؤولية علماء الأخلاق واللاهوتيين. كذلك، لم تتم الإشارة إلى الكذب والتضليل في موسوعة علم النفس إلا بشكل مختصر، لكن علم النفس في الآونة الأخيرة اهتم وتعمق في الأمر كثيرا، بعد فوات الأوان حين وجد أن الكذب أصبح ظاهرة شائعة ومعقدة بشكل مثير للاستغراب.