ديمقراطية بدون علمانية
كان أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ يهتفون في شوارع العاصمة وجل المدن الجزائرية هائجين “دولة إسلامية بلا ما نفوّطو” بمعنى يجب إقامة الدولة الإسلامية دون إجراء استفتاء أو اقتراع. ثم المرور لمرحلة الانتخابات تحت ظلها ومنطقها في الحكم. فالشريعة في نظرهم ونظر الإسلاميين جميعا، سابقة على الديمقراطية وأدواتها. وفي الحقيقة هم أوفياء لرؤيتهم للعالم، فهم لا يعترفون بالدولة الحديثة الديمقراطية التي يشرّع فيها الشعب لنفسه دون إملاءات ما فوق واقعية مسبقة. ويعلنون ذلك صراحة لا تلميحا في حين يبقى الديمقراطيون يلمحون ويرتبكون في توصيف الدولة التي يرغبون في إرسائها ومصدر القانون الذي سيحكمها.
من البديهي أن يرفع الديمقراطيون اليوم في الجزائر وفي غيرها شعارا صريحا مناقضا لشعار الإسلاميين كلهم هو “دولة علمانية دون انتخابات”. لأنها الطريق الوحيد الذي يسمح بالتنوع والاختلاف ولا يسمح فيه لأحد أن ينتخب أو يستعمل فكرة الأغلبية ليحرم آخر من حريته أو ممارسة حياته كما يريد.
العلاقة بديهية وضرورية بين أسس الحداثة الثلاثة: عقلانية أولا، علمانية ثانيا، وديمقراطية أخيرا. فلا يمكن تحقيق الديمقراطية الحقيقية بعيدا عن هذا التسلسل المنطقي الذي يفرض نفسه ولا يستدعي لا استفتاء ولا انتخابات.
ترتبط العقلانية ارتباطا وثيقا بالعلمانية فلا يمكن فصلهما. فالأولى تضع العالم بين يدي الإنسان ليعمل فيه عقله، وعن طريق التفكير العقلاني المنطقي يتحرر الإنسان من الأفكار المسبقة وينعتق من هيمنة كل الانتماءات المذهبية والدغمائية. عن طريق ممارسة العقلانية يمكن الوصول إلى نسبية مصطلحي الحقيقة والموضوعية، كما تفتح العقلانية آفاق المعرفة والوعي ثم يتم تعقل الواقع الموضوعي وتغيراته الدائمة والتأقلم معه.
يحاول الإسلاميون تحويل المواطن إلى مؤمن، بينما يحاول الديمقراطيون تحويل المؤمن إلى مواطن
وانطلاقا من هذا الفهم للواقع المتحرك، يسن البشر القوانين التي تتماشى مع هذا الواقع لضمان مصالحهم وترسيخ السلم والعدل. وتلك هي العلمانية المرتبطة دوما بالتجربة الإنسانية. هي تجاوز للنظرة الغيبية للعالم وفقا لتلازمها مع العقلانية. العلمانية ليست فصل السماء عن الأرض، وإنما فصل للدين عن السياسة، والذي هو سن القوانين بحثا عن مصلحة المواطنين والتعايش بين مختلف الأديان، واعتبار كل تلك الأديان والعقائد متساوية وعلى مسافة واحدة من الدولة. فالعلمانية ليست رأيا وإنما الحرية في أن يكون لكل الناس رأي.
ودون هذا الفصل والتسليم بأن الدين مسألة شخصية تخص الفرد وحده ولا تعنى بمعتقدات غيره، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية حديثة. فلا علمانية دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون علمانية. وكل من يبتغي ديمقراطية دون التأكيد على ضرورة فصل الدين عن الدولة، فهو كمن يحرث في الماء. لا يمكن إذن فصل العلمانية عن المشروع الديمقراطي في بلداننا العربية، وضرورة جعل السلطة تستمد شرعيتها من الشعب وليس من الإيمان أو الدين. في الفضاء الديمقراطي يجب أن يتحول المؤمنون إلى مواطنين. وليس كما تحاول أن تفعل الأحزاب الإسلامية، فبدل تحرير السياسة من الدين والدين من السياسة تحاول تلك الأحزاب تحويل أغلبية دينية إلى أغلبية سياسية. وتضرب الديمقراطية في مقتل.
يتمحور الصراع بين دعاة الدولة الدينية والديمقراطيين في الإشكالية التالية: يحاول الإسلاميون تحويل المواطن إلى مؤمن، بينما يحاول الديمقراطيون تحويل المؤمن إلى مواطن. في الحالة الثانية سيصبح المؤمن مواطنا وتضمن كل حقوقه سواء كان مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو بوذيا. أما في الحالة الأولى ولنفرض أن يتحول أغلبية المواطنين إلى مؤمنين ويصوتون على إقامة الدولة الإسلامية، فماذا سيكون مصير المسيحيين واليهود والبوذيين وغير المؤمنين؟
وإذا ما أراد الجزائريون إقامة دولة ديمقراطية مستقبلا، فعلى المجلس الانتقالي المرتقب أن يؤكد في الدستور القادم الفصل بين الدين والسياسة. وما لم يحسم الأمر دستوريا لصالح الدولة الديمقراطية العلمانية الحديثة، فلن يخرج الجزائريون من الغموض القانوني وسيسقطون في الفخ الأصولي آجلا أم عاجلا.