بين اليمين المتطرف وداعش.. رؤى مشتركة تهدد الإنسانية
العملية الإرهابية في نيوزيلندا التي أودت بحياة العشرات من المصلين في مسجدين في مدينة كرايستشيرش، هي عملية لا يمكن فصلها عن متوالية الإرهاب المتبادل. الواضح أن السياق السياسي الراهن في العالم، أصبح يتوفر على كل مقومات إنتاج الأفعال وردود الأفعال العنيفة، وهي متوالية لا يمكن أن تتوقف إذا لم يتم التوصل إلى بناء علاقات مواطنية تتجاوز الانتماءات الدينية داخل الدول الحديثة القائمة. ولعل عملية مدينة أوتريخت في هولندا الاثنين، التي يرجح أنها ذات طبيعة إرهابية، تؤكدُ هذا المنحى من الاعتماد المتبادل بين الإرهاب الإسلامي والإرهاب اليميني الأوروبي.
تشابه رؤية وطريقة تنفيذ الهجوم الإرهابي في مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا، الجمعة الماضي، مع أدوات يتبناها تنظيم داعش في هجماته، كشف عن تشابك التطرف على مستوى بناء الفلسفة المعادية وتعلم وسائل الهجوم، رغم الاختلاف الأيديولوجي.
وفتح تكرار عمليات اليمين المتطرف في بعض الدول الغربية، استجلابا واضحا لخطط جماعات الإسلام السياسي المتشددة، ولفت الانتباه إلى الباب الغائب في مجابهة أنماط الكراهية التي باتت كأنها تستقي الزخم من بعضها بما في ذلك عملية محاصرتها الأخلاقية.
يصعب التعامل مع ما حدث في نيوزيلندا من قتل جماعي على أنه عمل إرهابي عابر أو جريمة كراهية متوقعة، في ظل تصاعد النبرة اليمينية المتطرفة في العالم، لأنه يستدعي إلى الأذهان مباشرة رؤى تتعلق بتناسق التطرف وتشابكاته.
فسّرت العملية الإرهابية التي قام بها المواطن الأسترالي صاحب الأصول الأيرلندية برينتون تارانت، الكثير من البراهين حول تناسق العمل المتطرف وأدواته الفعالة، وإن اختلفت الأيديولوجيات ليبدو كأن التطرف الأبيض الذي نشأ معاديا للمسلمين باعتبارهم قتلة ومجرمين، هو نفسه يرتدي عباءة داعش وغيره من جماعات العنف، حيث مارس القتل بخطط وأدوات شبيهة وفي أماكن متباينة.
ألقت تفاصيل الحدث الأخير بظلال من المحاكاة لأعمال ابتدعها داعش، بداية من اقتحام دور العبادة وقنص المصلين وقتلهم بأعداد كبيرة، مرورا بتصوير الضحايا أثناء وبعد عملية قتلهم والتمثيل بهم ونقل الصورة مباشرة ليشاهدها العالم كله. كان تنظيم داعش أول من اقتحم الكنائس والمساجد وأمعن في القتل هنا وهناك، بذريعة أنهم “مسيحيون كفار أو شيعة مارقون أو متصوفون مضللون”.
اختار داعش مواقع التواصل الاجتماعي مساحة للتعبير عن الرأي بحرية مطلقة، لنشر أفكاره المتشددة بحثا عن مجنّدين جدد ولتنسيق العمليات الإرهابية، والترويج لأفكار وحشية تعبّر عن استعراض القوة والهيمنة.
التطرف بأشكاله المختلفة لا يجتمع فقط في أنماط الكراهية والعنصرية، لكنه يتعلم سبل الابتزاز والترويج من بعضه، ويتشارك فلسفة التبرير وتمرير الأدوات العنيفة
لم يختلف التيار اليميني المتطرف، والذي تمثل أخيرا في تارانت عن سلوك تنظيم داعش، ليس في كونه إجراما في حق الإنسانية وانتهاكا للمسالمين فقط، بل لأنه أيضا استنساخ لصور التشدد المتكررة.
اختار تارانت طريقة قتل مماثلة لطرق داعش، واستعان بالإنترنت للتخطيط لهجومه وتعامل بعملة بيتكوين لشراء أسلحته، وأقدم على جريمته بوحشية مفرطة ومقصودة، وأراد أن يشاهده الجميع وهو يطلق الرصاص على المصلين، ثم يعيد إطلاق الرصاص عليهم مرة أخرى ليتأكد من مفارقتهم الحياة، ولم يفرّق بين كبير وصغير، والمثير أنه رأى في ما فعله قدسية وحماية لبلاده وجنسه من الفناء.
تبدو هذه التصرفات شبيهة بسلوك داعش، حيث بنى تارانت أيديولوجيته الفكرية، التي نشرها في كتيب من 72 صفحة على موقع فيسبوك، على تكوين مجتمع جديد من الجنس الأبيض يسمو فوق بقية شعوب العالم.
وتحدث عن المهاجرين والمسلمين بخطاب أيديولوجي متشدد مفعم بالرمزية الموجهة، باختيار كلمات بلاغية بديلة، مثل وصف المهاجرين بـ”الغزاة والمسلمين”، و”الأعداء”.
لم يكن هذا العمل صورة لعمل فردي بامتياز، لكنه يعد امتدادا لأنماط أخرى من الشعبوية اليمينية المتطرفة الصاعدة في بعض الدول الغربية، والتي لا تكتفي بترديد خطاب الكراهية المعلن، بل تكرر إرهاب داعش الذي تنبذه صوريا ثم تعيد إنتاجه حرفيا.
من الأمثلة التي تدلل على استخدام الأسلوب نفسه، عملية دهس المارة في الشارع التي ابتدعها داعش، وهو ما ظهر في حادث مسجد فينسبري بارك بشمال لندن، عندما أطاح البريطاني دارين أوزبورن بعدد من المصلين أثناء خروجهم من صلاة التراويح في العام 2017، وقال عند سؤاله عن دوافعه “كنت أنقذ أوروبا من خطر الاحتلال الإسلامي”.
وتكررت صورة دهس المارة في أغسطس عام 2017 عندما انطلقت سيارة دفع رباعي في مظاهرة ضد صعود اليمين المتشدد في مدينة تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا الأميركية.
يقول الباحث الألماني المتخصص في الإرهاب باتريك ستريكلاند إن التشابهات في عمليات اليمين المتطرف لا تستهدف المسلمين وحدهم، لكنها ترفض كل ما هو خارج القومية البيضاء، فمثلما قُتل المصلون في مسجدين بنيوزلندا، قُتل 11 يهوديا بحادثة إطلاق نار قام بها مواطن أميركي اسكتلندي الأصل على كنيس بيتسبورغ في سبتمبر الماضي بالولايات المتحدة.
ويرى ستريكلاند أن التطرف بأشكاله المختلفة لا يجتمع فقط في أنماط الكراهية والعنصرية والغضب، لكنه أضحى يتعلم سبل الابتزاز والترويج والبروباغندا من بعضه، ويتناقل ويتشارك في فلسفة التبرير وتمرير أدواته العنيفة من شخص إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى.
أراد اليمين المتطرف شرعنة تشدده بإحياء النماذج القديمة للحروب الصليبية وتصادم الحضارات بين الشرق والغرب، وظهر ذلك في التدوينات التي كتبها تارانت على سلاحه قبل تنفيذه للجريمة من أسماء، مثل ميلوس أوبليتش الفارس الصربي الذي قتل السلطان العثماني مراد الأول في معركة كوسوفو، وشارل مارتل قائد جيوش الصليبيين في معركة بلاط الشهداء، علاوة على جاتسون الرابع أحد فرسان الحملة الصليبية الأولى.
وتتناسق الرؤية ذاتها مع ما تبناه تنظيم داعش منذ ميلاده، محتدا على كل ما هو غربي، مطلقا أسماء عربية ودينية على عملياته وجنوده، مثل صلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد وعبدالرحمن الداخل وخالد بن الوليد، وغيرهم من قادة مسلمين انتصروا على جيوش أوروبا في فترات سابقة.
تتوافق الهيمنة اليمينية مع نظيرتها التي تتبناها جماعات الإسلام الراديكالي في سياسة الهدم والفناء. وكل منهما لا يبحث عن تدمير عدوه فقط، لكن عن التدمير الكلي.
يشار إلى أن تارانت دعا في أوراقه التي نشرها قبل تنفيذه العملية، إلى إقصاء زعماء أوروبا كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغالبية القيادات الغربية الحالية، لإعادة ما أسماه “بناء حضارة غربية سامية أكثر قوة وتأثيرا”.
على مر التاريخ المعاصر، بداية من الحرب العالمية الأولى والثانية، مرورا بالثورة الصينية والتمدد الشيوعي، حتى صعود الإرهاب الديني متمثلا في القاعدة وداعش وغيرهما، يبدو التطرف متفقا على القتل وتبني سياسة مشتركة وتناقل الوسائل المستخدمة في الإرهاب.
ورغم تعدد الفلسفات والأيديولوجيات المستخدمة في هذا الفضاء، فهناك وجه واحد يعزز الكراهية ويستقي الموت ويبحث عن الوحشية الجذابة، وكأنه أمام عرض مسرحي دموي يستجدي فيه العاطفة من الجمهور.