من سينصف الإسلام والمسلمين؟
في بقعة جغرافية معزولة جنوب غرب المحيط الهادئ تدعى نيوزيلندا، اتخذ المواطن الاسترالي برينتون تارانت مسرحا له ليتقيأ عليه كل ما علق في رأسه من أفكار رونيه كامو، الفرنسي صاحب كتاب «الاستبدال الكبير»، الذي يتحدث عن اندثار الشعوب الأوروبية، ثم تحل محلها شعوب من المهاجرين غير الأوروبيين. وأن يُمجّد كل طروحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعادية للإسلام والمسلمين، ويعتبره رمزا لتجديد هوية العرق الأبيض، ويتأسّف لعدم وصول مارلين لوبان زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا إلى السلطة عام 2017. ثم يستحضر حوادث تاريخية منذ قرون، وأسماء قادة ومدن ومعارك لم يكن موجودا فيها. كل ذلك كان على وقع أغنية صربية عنوانها تخلص من الكباب. كان الجنود الصربيين يرددونها في حرب التخلص من المسلمين في البوسنة والهرسك عام 1995، بقيادة رادوفان كاراديتش.
ثم تنسدل ستارة المسرح ليظهر أن العرض المسرحي كان مجزرة، أزهقت فيها أرواح العشرات من الأبرياء بينهم أطفال، جاءوا للصلاة وليس لشيء آخر. في حين يرى البطل أن الثمن مُبرر كي تبقى الريادة للعنصر الأبيض.
السؤال الأهم هو ما الدافع؟ بمعنى أن الذي نفذ العملية لم يكن مواطنا من نيوزيلندا، ولم يكن على تماس يومي مباشر مع الذين قتلهم بدم بارد، كما لم يعان منهم. وعلى الرغم من ذلك فإنه وصفهم بأنهم غزاة احتلوا وطنه، وأنهم عرق يهدف إلى الحلول محل عرق آخر، وبالتالي فهم يمارسون عملية إبادة جماعية عرقية، وعليه فإن مقاومتهم واجبة على كل رجل أبيض، وأن رأيه هذا يمثل رأي ملايين الأوروبيين كما يقول. هنا تبرز الإجابة على السؤال بصورة واضحة جدا، وهي أن الخوف هو دافعه الأبرز، ثم بنى على هذا الشعور أفكارا معينة، فتغوّل لديه هذا الخوف الوهمي من الآخر، وأصبح دافعا للقيام بأعمال إرهابية على غرار ما قام به، وبذلك يصبح هذا النوع من العمليات الإجرامية غير محدد بمكان، ولن يستهدف مجموعة محددة بعينها وبفعلها، فهو مواطن أسترالي لكنه ذهب لينفذ جريمته في بلد آخر تختلف فيه الظروف الاجتماعية، وتختلف المجموعة العرقية التي استهدفها عن مثيلتها في بلده، وربما في بلدان أخرى.
وهذا كله يشير إلى أننا أمام ظاهرة عالمية يتحد فيها المكان، كما تتحد فيها الأفكار التي تروج لهذا الفكر المعطوب، فتصبح المعادلة التي ظهرت على المسرح النيوزلندي هي كالاتي. مجرم من أستراليا، ومسرح جريمة في نيوزيلندا، وأفكار مستمدة من فرنسا وأمريكا وصربيا، والمستهدف هو الإسلام والمسلمين أينما وجدوا وأينما حلوا.
لقد تطورت هذه المعادلة اليوم، فتحولت الإسلاموفوبيا من مجرد مشاعر كراهية وعدم تقبل لدى البعض، إلى ممارسات عنف وإجرام وقتل، وباتت تيارا فاعلا عابرا للحدود. كما وجدت لها موئلا في قمة السلطة السياسية في بلدان مثل إيطاليا والنمسا وليتوانيا. وصار لها صوت في العديد من الدول الأوروبية الأخرى. وتحول الكلام والشعارات إلى أفعال على الأرض، إلى الحد الذي بنت بعض الدول جدرانا على حدودها ووضعت أسيجة شائكة، كي لا يعبر إلى أراضيها المهاجرون المسلمون. كما عادت بعض الدول الاوروبية إلى فكرة الدولة القومية. فنجد على سبيل المثال الحكومة الفرنسية تنسحب نحو اليمين المتطرف، حيث بدأت باتخاذ إجراءات صارمة ضد الاقليات وأماكن العبادة والمراكز الدينية. وأظهر استطلاع في بريطانيا أن 30 في المئة من البريطانيين يقولون إن الاسلام ليس متوافقا مع قيم المجتمع البريطاني. وهذا النفس موجود حتى في مراكز أبحاث تعطي استشارات سياسية. وإذا ما نظرنا إلى ما يقوله زعيم أكبر دولة في العالم وهو الرئيس الامريكي ترامب، من أن الإسلام يكرهنا، وما يسميه الإرهاب الإسلامي، وأن اللاجئين القادمين إلى أوروبا إرهابيون، نجد أن هنالك بُعدا سياسيا في كل هذه الحوادث. وهذا البعد أنتج الازدواجية التي نراها لدى الدول الغربية. فعندما يكون المجرم غير مُسلم تصبح كل بشاعة جرائمه، الدافع فيها المرض النفسي، الذي يعانيه أو الاختلال العقلي، ولا نسمع وصف العمل بأنه إرهابي. وهو السبب نفسه في أننا لم نسمع حتى اليوم وصف حادث جُرمي بأنه إرهاب مسيحي أو إرهاب يهودي. في حين بات الإسلام والمسلمون والإرهاب وجوها لعملة واحدة في نظر الغرب، وهذا كله تراجع أخلاقي وقيمي وإنساني كبير وخطير.
تحولت الإسلاموفوبيا من مشاعر كراهية وعدم تقبل لدى البعض، إلى ممارسات عنف وإجرام وقتل
لقد دخل رجال السياسة وبعض رجال الإعلام في أمريكا وأوروبا منطقة المُحرّمات، حين استخدموا الاسلام والمسلمين المهاجرين سُلّما لهم للوصول إلى تحقيق مكاسب سياسية، بدون توقع النتائج المستقبلية لهذا السلوك العفن والخطاب المعطوب. كما شجعوا على نشر ثقافة التفوق الغربي الأبيض على العرب والمسلمين بما يعطيهم، حسب وجهة النظر هذه، حقوقا مضافة في الفكر وفي ازدراء الآخرين. لذلك أعطوا أنفسهم الحق في احتلال العراق وأفغانستان ووهب القدس عاصمة لإسرائيل. وعندما تحصل عملية إرهابية على أراضيهم يوصم كل المسلمين بالإرهاب، بينما كل إرهابهم ضد المسلمين يصفونه بأنه تصرف فردي غير إرهابي. والسبب في ذلك هو النظرة الاستعلائية القائمة على أنهم بشر من الدرجة الاولى وغيرهم من درجات دنيا. لذلك كله كانت المحصلة اليوم عقدة قوية في مجتمعاتهم من الاختلافات العرقية والدينية والإثنية، التي لا يمكن للاوروبيين النجاح في الخروج منها بدون اللجوء إلى العنف. كما بانت ملامح التخلي عن تعدد الثقافات، والتخلي عن الليبرالية، لصالح إنشاء نظم يمينية وتهميش السكان من غير الاوروبيين. وبات المجتمع الاوروبي لا يشعر بأنه مجتمع بل مجموعة بشر منعزلين كل فرد فيه بإمكانه التصرف بأسوأ ما لديه بناء على توقعاته بتصرف الاخر بأسوأ ما يمكن، وهو شعور بالضعف يولد ردة فعل الرفض للاخر، وهي ردة فعل الضعيف. على هذا الاساس قد نرى ولادة جديدة لقيم أوروبية أخرى، أو التوجه المتزايد نحو نظم سياسية يسيطر عليها اليمين المتطرف.
إن هؤلاء الاعلاميين والسياسيين هم أنفسهم اليوم يروجون لتبرير ساذج، بأن مجزرة نيوزيلندا هي رد فعل طبيعي لعمليات إجرامية قامت بها تنظيمات إسلامية متطرفة، في حين أن الحقيقة هي أن الحركات المتطرفة في الغرب نشأت قبل الحادي عشر من سبتمبر، وقبل ظهور الحركات الاسلامية المتطرفة. كما أن الموجة المعادية للاسلام والمسلمين بدأت قبل عام 1990، وشجع عليها بوش في حربه على العراق. وتعزز هذا الاتجاه بعد هذا التاريخ حينما أصبحت الحرب ضد ما يسمى الإرهاب الاسلامي نوعا من أنواع العقيدة في مراكز صنع القرار الاوروبي.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية