جميلة بوحيرد: خطة بوتفليقة انقلاب تدعمه فرنسا
نجح الجزائريون في كسر أولى حلقات الاستبداد من خلال ما أعلن عنه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة خلال الأيام الماضية حول انسحابه من الترشح لعهدة رئاسية خامسة وتغييره للحكومة وطرحه ورقة وزير الخارجية الأسبق الأخضر الإبراهيمي على الشاشة.
الشباب الجزائري الذي غضب بعد صمت طويل ما يزال لا يثق بتلك الوجوه القديمة التي يعني مجرد ظهورها انعداماً للثقة في الأجيال الجديدة، ويعس تمسك النظام القديم بمن يأمن جانبهم. وهذا يزعزع من جديد ما يمكن أن يتم التوصل إليه من تفاهمات تمنع تفجّر الأوضاع في البلاد.
لكن الوجوه القديمة ليست مثل بعضها البعض، ولا تنتمي كلها إلى النظام الذي ثار عليه الشارع الجزائري، وصحيح أن هذه السيدة هي ابنة الذاكرة القديمة لحركة التحرر التي ما زالت تحكم باسم نضالها القديم ضد الاحتلال الفرنسي، لكنها اليوم وعلى الرغم من الانتقادات التي طالتها من جهات حقوقية ونضالية، على خلفية مواقفها وانحيازها للنظام السوري وحزب الله في لبنان، إلا أن أيقونة النضال التحرري في الجزائر والعالم العربي جميلة بوحيرد، تمثل الآن مصدر الإلهام الأول لشباب الحراك الشعبي الثائر ضد نظام بوتفليقة، وهي في عقدها التاسع من العمر.
غياب الكاريزما عن الساحة
بوحيرد التي وصفت خطة بوتفليقة للإصلاح والانتقال السياسي بأنها ”انقلاب“، قالت إن حكومات ما بعد الاستقلال في الجزائر استمرت في الخضوع لما وصفته بالوصاية الفرنسية، مؤكدة أن دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمبادرة بوتفليقة عبر عنه بجلاء. وأضافت بوحيرد أن ”أحدث العلامات الكاشفة عن هذه الروابط السيئة بالهيمنة الاستعمارية الجديدة، وهي دعم الرئيس الفرنسي للانقلاب الذي خطط له نظيره الجزائري، إنما هي عدوان على الشعب الجزائري”.
حين اندلعت المظاهرات الشعبية في منتصف الشهر الماضي، في بعض المدن الجزائرية، احتجاجا على النوايا الأولية للسلطة في ترشيح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، كان أشد المتفائلين غير واثق في هبة الشباب الجزائري لمناهضة السلطة التي كتمت على أنفاسه طيلة ثلاثة عقود، وجزم المشككون على ألا ينتفض الجزائريين بهذا الشكل والمضمون، وحجتهم في ذلك غياب الشخصية الرمزية والكاريزمية التي يستلهم الحراك منها انتفاضته.
وكان إعلان بوحيرد، عن انتقالها إلى ساحة أول مايو بوسط العاصمة، لتكون بجانب المتظاهرين في مليونية رفض ترشح بوتفليقة للانتخابات الرئاسية ورحيل السلطة، بمثابة الجذوة التي أشعلت حماس الحراك الشعبي، وفتحت المجال للالتحاق الجماعي لمختلف الشخصيات والفاعلين في الساحة بانتفاضة الشباب الغاضب.
حكومات ما بعد الاستقلال في الجزائر تتهمها بوحيرد بأنها استمرت في الخضوع لما وصفته بالوصاية الفرنسية، مؤكدة إن دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمبادرة بوتفليقة عبّر عن تلك الوصاية بجلاء
ولا زالت بوحيرد، رغم تقدمها في السن تحتفظ بحيويتها وبرمزيتها ومواكبتها للحدث المحلي، ولم تتأخر في مختلف المحطات عن الوقوف إلى جانب شعبها، رغم إمكانية توظيف رصيدها التاريخي في أن تكون واحدة من النخب الاجتماعية والسياسية المرموقة التي تعيش حياتها في أبراجها العالية منقطعة عن ضجيج الشارع وصرخات الشعب.
لم تشأ بوحيرد الانفصال عن عمقها الشعبي، رغم المغريات المتوفرة لديها، حيث تصر على الإقامة في شقتها المتواضعة بالعاصمة، ولما ضاقت بها الدنيا وجهت صرختها للسلطة كما يصرخ باقي الجزائريين للتنديد بأوضاعهم الاجتماعية، رغم أنه بإمكانها توظيف تاريخها ورصيدها في تحصيل ما تريد، ولمّا وجدت نفسها غير منسجمة مع شخصيتها النضالية، استقالت من مجلس الأمة “الغرفة الثانية” للبرلمان، رغم ما يوفره لها المنصب من امتيازات وحظوة رسمية. أخذ حضور بوحيرد يساهم في تشكل هوية الحراك الشعبي المناهض لنظام بوتفليقة، حيث أضفى عليه الطابع النضالي والمطلبي، ولو اختلف في طبيعته، فزمن بوحيرد كان ثورة مسلحة ضد الاستعمار الفرنسي وتعبئة سياسية وحقوقية للقوى الداعمة، بينما الحراك الآني يلتزم الطابع السلمي والهادئ لأنه في أرضه وقوته ونفوذه في تبليغ رسالته بصوت الحناجر لا غير.
بوحيرد لا زالت تمثل نموذجاً من أجل الحرية وحقوق الإنسان ومحل تقدير شعبي كبير، فقد استقبلت من طرف شباب الحراك استقبال الأبطال، ولو أن مواقفها تجاه الأسد وحسن نصرالله شكلت شوائب غير لائقة بمسارها وتاريخها، برأي مناضلين وحقوقيين وسياسيين عرب، يعارضون تلك الأنظمة.
وبينما يشدد هؤلاء على أن قيم الحرية والنضال كلّ لا يتجزأ، وأن رسالة بوحيرد علقت بها شوائب مواقفها الأخيرة، قياسا بما يرتكبه من تدعمهم في حق شعوبهم، فإن المقربين منها يقولون بأن بوحيرد “لبت دعوات رسمية فقط، قد أريد منها توظيفها في سياقات أخرى، لتشويه سمعتها وتقديمها في صورة المناصر للأنظمة السياسية والمناوئ لإرادة الشعوب العربية”.
جحود النظام لم يخمد الجذوة
ويبقى انحياز بوحيرد للحراك الشعبي المتفاقم في بلادها غير مفاجئ للكثير من العارفين بشخصيتها وتاريخها. تلك الشخصية التي تشبعت بقيم الحرية والنضال في زقازيق حي القصبة التاريخي، وفي زنزانات الاستعمار الفرنسي، ورفضت المسارات التي صنعتها سلطات الاستقلال، حيث استقالت من منصبها في رئاسة تنظيم الاتحاد النسوي الجزائري.
لطالما بقيت بوحيرد على مسافة هي أبعد من السلطة أقرب من شعبها، رغم محاولات التشويش والتشويه التي طالتها من طرف بعض الأبواق الإعلامية التي انتقدتها بشدة حين انتفضت في رسالة وجهتها إلى بوتفليقة احتجاجا على أوضاعها الاجتماعية وأوضاع المجتمع بشكل عام بعدما وجدت نفسها غير قادرة على توفير تكاليف العلاج لنفسها.
ولأن أنفتها وعزة نفسها لم تكن لتسمح لها بقبول هبات من أصدقائها والمتعاطفين معها حتى في حكومات عربية، فإن هبة الجزائريين كانت كبيرة، وتكفلت بتكاليف علاج بوحيرد التي أسست بالباقي صندوقا للتكفل بالمهمشين من رفاق النضال، لكن المنعطف زاد من قطيعة المناضلة مع نظام بوتفليقة، إضافة إلى تراكمات سابقة من خيبة الظن وخيانة العهد من طرف رفاق الماضي.ولم يكن الأمر غريبا على بوحيرد، فتجربتها المرة مع نظام الرئيس الراحل هواري بومدين، والرئيس الحالي بوتفليقة، أذاقتها مرارة الفراق العمدي وتفكيك أسرتها، بعد إصدار قرار رفض إقامة أصدقاء الثورة التحريرية على التراب الجزائري، وعلى رأسهم المحامي الفرنسي وزوجها الراحل جاك فيرجاس، فكانت تنتقل دوما إلى باريس لرعاية شؤون أسرتها وابنيها إلياس ومريم، والعودة إلى بيت عائلتها في الجزائر.
بوحيرد تعد إرثاً جزائريا وعربيا مجيداً في آن معاً، فقد تغنى بها الأدباء والسينمائيون ونظم فيها كبار شعراء العرب القصائد، وكانت مصدر إلهام لنزار قباني، بدر شاكر السياب، سليمان العيسى، محمود درويش. وخلدها المخرج المصري يوسف شاهين بفيلم “جميلة”، وكان كل من نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، علي الزرقاني ووجيه نجيب في فريق كتابة السيناريو
وعلى عكس الكثير من رموز الثورة التحريرية وكبار مسؤوليها الذين تحولوا إلى نخب حاكمة بعد الاستقلال باسم الشرعية الثورية، حتى أولئك الذين كانوا يستلهمون من شجاعة وبطولة بوحيرد، بمن فيهم بوتفليقة، فقد ظلت غصة في حناجر هؤلاء وعقدة تؤرقهم في اليقظة والمنام، لأنهم لا يستطيعون المزايدة عليها، وهي تتفوق عليهم في تطعيم الأجيال الشابة بقيم الحرية والنضال.
وهاهي الرسالة الآن تتلى بصوت مدوّ، ففيما تصيح الحناجر في الشوارع والساحات العمومية، برحيل بوتفليقة الرئيس والمناضل التاريخي وحامل السلاح ضد الاستعمار، وبذهاب حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، الامتداد السياسي لجبهة التحرير التاريخية، يجري الترحيب ببوحيرد وحملها على الأعناق كرمز ينير درب الأجيال الشابة.
من أب جزائري وأم تونسية من محافظة صفاقس ولدت بوحيرد العام 1935 في حي القصبة العثماني، الذي شهد كتابة صفحة مشرقة من تاريخ الجزائر، ومن صناعة بطلات الجزائر لقيم الحرية والانعتاق، فإلي جانب جميلة بوحيرد، كانت حسيبة بن بوعلي، زهرة ظريف بيطاط، ومليكة قايد وغيرهن، وفي سن العشرين التحقت بوحيرد بصفوف الثورة، مختصة في وضع ونقل المتفجرات لاستهداف مقار ومباني السلطات الاستعمارية في العاصمة.
في زنزانات الاستعمار ذاقت بوحيرد شتّى أصناف التعذيب والتنكيل من جسدها النحيف. لكنها لقنت جلاديها دروس الوفاء للثورة، وأثارت جنونهم لما لم يفتكّوا منها أسرار الرفاق والمناضلين، فأصدرت عدالة المحتل حكم الإعدام الذي أثار غضب المنظمات الحقوقية والناشطين في العالم، واكتسبت جميلة تعاطف العالم بعدما تصدرت صحفا عالمية، تحول إلى ضغط قويّ دفع الفرنسيين إلى تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، الذي بقيت فيه إلى غاية الاستقلال العام 1962 واستنشقت فيه بوحيرد نسمات الحريات التي دفعت لأجلها كل شيء.
رمز في مكانه الطبيعي
بذلك الرصيد صنعت بوحيرد مجدا جزائريا وعربيا تغني به الشعراء والسينمائيون، فقد نظم فيها كبار شعراء العرب القصائد، وكانت مصدر إلهام لنزار قباني، بدر شاكر السياب، صالح الجعفري، صالح الظالمي، صبرينة الحسو، نازك الملائكة، سليمان العيسى، محمود درويش، عثمان كجراي، وخلدها المخرج المصري يوسف شاهين بفيلم “جميلة”، وكان كل من نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، علي الزرقاني ووجيه نجيب في فريق كتابة السيناريو.
ولا زالت بوحيرد ترفض تصوير فيلم عنها من دون الحصول على موافقتها، لأنها ترى الأعمال الفنية والسينمائية المنجزة في إطار ما يسمى بـ“سينما الثورة” نوعا من أنواع تثبيت النظام المتسلط والتلاعب بتاريخ المجاهدين، في إشارة لتوجيه تلك الأعمال وفق الروايات الرسمية التي تمليها السلطة وتخدم توجهاتها، وليس سردا للحقائق التاريخية التي تدين الكثير ممّن هم في هرم السلطة الآن أو في السابق.
ويذكر عن رئيس الوزراء السابق وأحد الفاعلين في محيط الرئاسة عبدالمالك سلال، تصريحه الغريب تجاه المرأة، خلال حملة الدعاية الانتخابية لرئاسيات العام 2014، قوله “نحيي جميلة في عيد المرأة ونتمنى عودتها إلى الصف”، وهو تصريح بقدر ما انطوى على إهانة مبطنة، كان يستهدف تطويع المرأة التي عاشت عصية على ماكنة الاستعمار الفرنسي، إلى صفوف سلطة هشة اهتزت أركانها لمجرد الحضور الرمزي لبوحيرد، إلى ساحة أول ماي دعما لحراك الشارع ضد نظام بوتفليقة.
واليوم يرى كثيرون أن الحراك الشعبي المشتعل في البلاد هو المكان الطبيعي لبوحيرد، قياسا بقيمها النضالية وبحسرتها المتراكمة طيلة عقود الاستقلال، فالمرأة التي يحتفي بها العالم والشعوب العربية لا زال الجحود والنكران يلاحقانها في بلدها.