نساء “الدولة الإسلامية”.. توريث دولة الأوهام
خروج نساء داعش من قرية الباغوز مسألة وقائعية ترتبت على تقدم الأحداث العسكرية والسياسية على الأرض، لكن خروج هؤلاء لا يحجب أن الفكرة التي يحملنها، كبقية المؤمنين بأدبيات التنظيم الإرهابي، تظل قائمة، بل إن خطورتها لدى النساء أعمق أثرا، خاصة مع تأكيد بعضهن أنهن غادرن الجيب الأخير للتنظيم ليربين جيلا آخر يقود التنظيم.
أمام عدسات الكاميرات ودون تردد يهتفن بالبقاء لـ”الدولة الإسلامية”، ويقلن إنهن خرجن من قرية الباغوز في سوريا بأمر “أمير المؤمنين” وليس خوفا من الموت، يغمرن أولادهن بحلم العودة مرة أخرى، ويعلنَّ أنهن غير نادمات على انضمامهن إلى تنظيم داعش الإرهابي الذي يجتمع على محاربته العالم بأسره.
هي بعض الصور التي رأيناها على وسائل الإعلام بينما كانت تلتقي الأمهات “الفارات” مما يعتقد التحالف الدولي أنه آخر معاقل تنظيم داعش في سوريا. صور لا تقبل التأويل وليست مفبركة وتبوح بشيء واحد فقط هو أن دولة داعش المتخيلة انتهت، لكن فكره لم ينته ولن تتردد أمهات داعش في توريثه لأولادهن.
في انهيار “دولة الخلافة” ما يذكرنا بسقوط الاتحاد السوفييتي نهاية القرن الماضي، لم ينته الاتحاد بقوة السلاح، مثلما حدث مع داعش، ولكن “الفكرة الوهم” التي قام عليها الكيانان هي القاسم المشترك بينهما.
كل من الاتحاد السوفييتي و”دولة الخلافة” كان عدواً للعالم في يوم من الأيام، ولكليهما صنعت الأسلحة وتحركت الجيوش وأقيمت التحالفات الدولية، ولكن الفارق بينهما أن خطر الشيوعيين كان يتمثل في فكرةٍ وخطرُ الدواعش تمثل بالسيف، فكانت الحرب الباردة على الأول وكانت الحرب العسكرية على الثاني.
إقامة جنة على الأرض فكرة أدرك الشيوعيون فشلها بالتجربة فهدموا معبدهم بأنفسهم وأزالوا الجدران التي فصلتهم عن العالم، أما فكرة إعادة الزمن إلى الوراء فما زال الداعشيون يؤمنون بها ويحلمون بتحقيقها رغم انهيار دولتهم.
لم يفعل الدواعش مثل الروس عندما سقطت دولتهم، لم يرفعوا الكؤوس فرحا ولم يتسابقوا ليهدموا حائطا كان يصد عنهم تيارات الغرب الرأسمالي. خرج الدواعش من الباغوز ناقمين على عالم هدم مشروع دولتهم المستنسخة من عصر مثالي لم يعرفه التاريخ حقيقة، وإنما توارثته أجيال عبر كتب ومناهج دراسية.
لم يكن هناك بد من الحرب على داعش، فلا يمكن أن تسمح لجماعة بإجراء تجارب على أفكار التطرف والكراهية بحجة الديمقراطية وحقوق الإنسان في التعبير والاعتقاد، وبتعبير آخر لا تستطيع أن تسمح للدواعش بإقامة دولة تنشر الرعب والموت في العالم وتتركهم ليدركوا بعد عقود أن دولتهم هذه تقوم على فكرة باطلة لا بد أن توأد.
ثمة نموذج آخر لدولة شُيدت في العصر الحديث على وهم وتعامل معها العالم بالطريقة ذاتها التي واجه بها داعش، ألمانيا النازية التي تبنت فكراً متطرفاً يحكم على الآخر بالموت أو الاستعباد لمجرد اختلافه، هلكت هي الأخرى بحرب عالمية وأفرز سقوطها مصطلح “معاداة السامية” لملاحقة كل من يستهدف اليهود كشعب، قولا أو فعلا.
لماذا لا يولد من انهيار داعش مصطلح جديد يستهدف كل إرهابي حول العالم، تهمة نسميها معاداة الإنسانية وتطال كل من ينشر التطرف بفكره أو بيده أو بماله، ليس فقط التطرف الديني وإنما كل أشكال الإقصاء والإلغاء بين البشر. حيثما نحتَجْ إلى القوة لصد أعداء الإنسانية نستخدمْها، ولكن يفضل وأد الفكرة المتطرفة قبل أن تكبر لتأخذ وهم دولة يلتقطها أحد ما، فيحشد وراءه جيشا من المراهقين أو الجاهلين من أجل تشييدها.
طبعا كل من ينتمي إلى داعش، فكراً أو فعلاً، هو متهم بمعاداة الإنسانية، كما هو حال المنتمين إلى اليمين المتطرف في الغرب والجماعات الدينية المتشددة في الشرق، ولكن الداعشيين يحتاجون إلى أكثر من تشريع أو عقاب لقتل حلمهم بدولة السيف وسبي النساء وفرض الجزية على غير المسلمين.
وأد الحلم الداعشي يستوجب منا إعادة قراءة تاريخنا بلغة النقد وليس التقديس. قراءة تبوح بما جرى في بعض العصور الإسلامية من دم وقتل وإرهاب، فتفضح الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في تلك العصور، ثم تحاسب بالقانون والتشريع، قبل القوة والسلاح، كل من يقتدي بها ويقلدها في عصرنا هذا.
لا توجد أمة لم تعرف عصرا مظلما عبر تاريخها، والخطوة الأولى للخروج منه هو الاعتراف به وانتقاد رموزه عبر الكتب والمناهج الدراسية والأبحاث والروايات والقصص والسينما والتلفزيون وحتى الأغاني، بهذا فقط يتحول العصر المظلم إلى حقبة تاريخية وتتوقف رحلات العودة إليه واستحضاره.
لا نذيع سرا عندما نقول إن تاريخ الدولة الإسلامية ينطوي على محطات إيجابية وأخرى سلبية، والاعتراف بأخطاء هذه الدولة لا يمس بمقدساتها ولا يلغي تاريخها، وإنما يخلق أجيالا من المسلمين تعرف جيدا الفرق بين دين الدولة ودولة الدين، بين صناعة التاريخ واستنساخه، بين أن تعيش لتموت وأن تموت لتعيش.