هل يغير الحراك الشعبي الجزائري البنية الاستبدادية
لا شك أن الحراك الشعبي الذي تشهده الجزائر منذ أسبوعين هو تعبير وطني جمعي ضد واقع مريض ومتعفن، وهو أيضا نتاج وعرض لغياب حياة سياسية وطنية مؤسسة على مبادئ التداول على الحكم والإرادة الشعبية، والمشروع الوطني الشامل الذي يوفر الاستقرار وشروط الحياة الكريمة للمواطنين والمواطنات.
لقد بيَنت لي تجربة معايشتي لتفاصيل الواقع الجزائري عن قرب طوال السنوات العشر الأخيرة أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لم يتخلص، رغم ابتعاده عن السلطة مدة عشرين سنة بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين في عام 1978، من بؤس الثقافة السياسية الجهوية ومن الاستبداد الفردي واحتكار الحكم منذ انتخابه في العهدة الأولى إلى يومنا هذا.
وفي الواقع فإن الحراك الشعبي القوي الذي عصف بالشريحة السياسية الحاكمة قد انفجر أيضا من أجل تصحيح الوضع المغلوط المتمثل في التلاعب بالدستور، وبمؤسسات وثروات البلاد، فضلا عن تحول قصر الرئاسة بمنطقة المرادية إلى وكر لعائلة الرئيس وجماعة تلمسان والغرب الجزائري وللشلة الانتهازية المنحدرة من منطقة القبائل الكبرى مثل الوزير الأول أحمد أويحيى وسيدي السعيد وعلي حداد وغيرهم.
ففي تقدير الملاحظين السياسيين فإن هذا الحراك الشعبي يطرح الآن على الجزائريين عدة أسئلة مترابطة تتصل بعدة قضايا منها إخفاق أحزاب المعارضة، على مدى أكثر من عشرين سنة من نشأتها، في تجاوز الثقافة السياسية المتخلفة السائدة في الجزائر منذ خروج الاحتلال الفرنسي إلى اليوم.
وفي الحقيقة فإن انتفاضة الشبان واحتجاجاتهم السلمية تمثل رفضا صارخا وتلقائيا لفلول المعارضة الشكلية التي تخلت عن الشعب الجزائري الغارق في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وفي الركود الثقافي والفقر الفكري، ومن هنا فإنه يمكن القول إن هذا الحراك يشكل خطوة مهمة على طريق التحرر من البنية السياسية التقليدية والمحنطة التي ما فتئت تمارسها السلطات الرسمية بصلف وتعسف، وها هي تعيد إنتاجها المعارضة التي أنشأها النظام الحاكم نفسه لكي يمتصَ ويحرَف الهبّات التي فجرها الشعب الجزائري في عدة مناسبات.
هناك مسألة خطيرة تجابه هذا الحراك الشعبي وتتمثل في تسلل كثير من الانتهازيين المعروفين في الساحة الوطنية، حيث نرى هؤلاء يلجأون إلى توظيف تكتيك جهنمي يتمثل في استخدام أقطاب الجهاد الجزائري كحصان طروادة في المظاهرات الشبابية الشعبية لكي يظهروا كمعارضة وطنية نظيفة اليد وهي ليست كذلك أبدا.
وفي هذا الصدد يستغرب الجزائريون مثلا، ظهور أشخاص معروفين بولائهم للجنرالات في المظاهرات إلى جانب رموز حركة التحرر الوطني الجزائري أمثال جميلة بوحيرد وزهرة ظريف، مع العلم أن هؤلاء الجنرالات قد لعبوا دورا محوريا في إجهاض أول انتخابات تعددية شفافة عرفتها البلاد في عام 1991، وألغيت بعد مدة قصيرة، كما شاركوا بضرباتهم التعسفية طوال العشرية الدموية وأكثر من ذلك، فإن هؤلاء الأشخاص المندسين بين صفوف الشبان قد تم تعيين بعضهم في مناصب سياسية وبرلمانية من طرف هؤلاء الجنرالات منهم الجنرال محمد بتشين وخالد نزَار وغيرهما.
هناك قضية مهمة أخرى لم تخضع بعد للنقاش الجاد وتتمثل في مصطلح “الثورة” التي تلحق الآن بانتفاضة 22 فبراير الجزائرية التي استهدفت وقف ترشح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للعهدة الخامسة الذي قام أخيرا بالتمديد لنفسه وبنفسه لفترة غير محددة حتى الآن، وهنا نتساءل: هل إشعال المظاهرات من أجل الحيلولة دون ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة هو ثورة حقا، أم أنه حراك وطني إيجابي من أجل رفض الإحباط الاقتصادي والاجتماعي الذي يعاني منه الجزائريون، وهو الإحباط المركب الذي أصاب ولا يزال يصيب شريحة الشباب بدءا من السنوات التي مهدت لتفجير العشرية الدموية، وتواصلت حتى الآن؟
وهل حطم هذا الحراك الشعبي بشكل نهائي البنية الثقافية والسياسية التي أفرزت حكم الفرد الواحد، أو الشلة الواحدة، أو الجماعة المنتمية إلى هذه الجهة أو تلك الجهة في الجزائر العميقة؟
ولماذا حصرت الشعارات المرفوعة الأمر في مجرد الدعوة إلى تأسيس الجمهورية الثانية (لاحظ التقليد هنا للتراث السياسي الفرنسي المتمثل في الجمهوريات المتتالية التي عرفتها فرنسا) علما أن الجزائر لم تنجز حتى يومنا هذا عملية فك الارتباط مع مخلفات الاستعمار الفرنسي، كما فشلت فشلا ذريعا في بناء اللبنات الأولية للمجتمع الحديث والعصري الذي تتأسس عليه الدولة الديمقراطية؟
من الواضح أن سحب السلطات الجزائرية، وفي المقدمة الرئيس بوتفليقة، للوزير الأول أحمد أويحيى من الساحة السياسية يدخل تكتيكيا في إطار امتصاص الغضب الشعبي واحتوائه، خاصة وأنه تم استبداله بوجهين ينتميان إلى نفس النظام ويعتبران جزءا من التخلف البنيوي الذي فرضته عصابة الحرس القديم داخل أجهزة النظام الجزائري على مستوى المركز وعلى مستوى البلديات والمحافظات.
والأدهى والأمر هو أن هذين الوجهين ووجوه أخرى ينتظر أن يلعب أوراقها النظام الجزائري قريبا تحمل التراث التسلطي والمتخلف عن العصر بكل أبنيته الثقافية والذهنية والفكرية المتحجرة.
في ظل هذا الوضع السلبي المركب ينهض سؤالان وهما: من الذي يعطل حتى الآن بروز ملامح قيادة فكرية وسياسية، ضمن هذا الحراك الشعبي، تتحمل مسؤولية وضع معمار هندسي فكري لبرنامج الدولة الجزائرية الحديثة البديلة على أنقاض هذا الركام السياسي الباهت؟ وهل يمكن لهذا الحراك الشعبي أن ينجز عملية تغيير النظام السياسي القائم والذي يستمد شرعيته من سيطرة النسق الثقافي التقليدي المتخلف ومن فرضه للرأسمالية المتوحشة التي أغرقت المجتمع الجزائري في مستنقع الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي والاستبداد السياسي؟