ندم عناصر داعش هدفه البحث عن مخرج من المأزق
تطرح الهزيمة النهائية الوشيكة لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا عدّة أسئلة تتمحور حول مصير التنظيم المتشدد والخطر الذي يمثله أتباعه المؤمنون إيمانا راسخا بأفكار من قبيل “استهداف الغرب الكافر للمسلمين” و“الجهاد في سبيل الله” و”التآمر ضد الإسلام” وأفكار أخرى غرسها تنظيم الدولة الإسلامية في أذهانهم وعلى رأسها فكرة “أرض الخلافة”. فكل هذه المعتقدات الراسخة تجعل مشاعر الندم التي أبداها من كانوا من بين المحاصرين في الجيب الأخير لداعش في شمال شرق سوريا تبدو بوضوح مشاعر زائفة هدفها البحث عن مخرج للإفلات من العقاب فقط دون نوايا حقيقية لـ”التوبة”. لكل هذه الأسباب ترفض الدول الغربية السماح بعودة مواطنيها الذين قاتلوا في صفوف داعش وتقبل فقط بعودة أطفال المقاتلين مع التردد في قبول عودة النساء.
بات الشغل الشاغل لكافة القوى الدولية متأرجحا حول مصير فلول تنظيم الدولة الإسلامية من عائلات وأسرى متعددي الجنسيات من دول شرق آسيا وأوروبا ودول عربية، مع هزيمة داعش شبه النهائية في سوريا.
فيما احتفل الكثيرون بإعلان النصر في آخر معاقل داعش بسوريا، ورفعت أعلام الانتصار وابتهج العالم بإنهاء أحد أسوأ كوابيسه في العقود الأخيرة، بدا المشهد أكثر ضبابية حول المخاطر المحتملة والقادرة على خلق أمواج وعواصف أخرى من التطرف.
يحذر الكثير من الباحثين والخبراء من كون هزيمة التنظيم الدموي هي نهاية حقبة الخطر الأصغر وبداية الإذعان لمواجهة أكثر شراسة وهمجية من قبل المتطرفين المفعمين برغبة أشدّ في الانتقام، والثأر من تفتيت قلب أيديولوجيا الخلافة وحلم الدولة الإسلامية. وهو الأمر الذي طرح مسألة ماذا يمكن أن يفعله العالم بشأن التعامل مع هؤلاء الجهاديين وأسرهم.
أجابت أستاذة العلوم السياسية بجامعة ميريلاند الأميركية فيرا ميرونوفا عن تلك المعضلة الصعبة، بتفنيد ديموغرافي لهؤلاء المهزومين الجهاديين عبر دراسة نشرت مؤخرا بالمجلة العلمية “تريرست بريسبكتيف” قامت خلالها بعقد مقابلات مع جنود تابعين لداعش قبض عليهم في سجون سورية وعراقية وتركية خلال العامين الماضيين. ترى ميرونوفا أن التحقق من مصائر الجهاديين وضمان عدم تحقيقهم أي تأثير في المستقبل متعلقان بفهم طبيعة تواجدهم في سوريا واتساقها مع كلّ مِن الخلفية العلمية والاجتماعية القادمين منهما.
قسمت الدراسة الجهاديين المهزومين حديثا بحسب إطارين؛ الأول طبقا للأهداف التي دفعت نحو الانضمام في البداية. والثاني مرهون بتحول تلك الأهداف مع عواقب الحرب والهزيمة. إذ يعُقد التنوع الكبير في جنسيات وأشكال وأفكار المنتمين إلى داعش في سوريا والعراق مسألة تطبيق نظام واحد وآلية مشتركة لمجابهة خطر تطرفهم وردعهم مستقبلا.
أسباب الانتماء إلى داعش
فبحسب الدراسة، توجد خمسة أسباب أساسية جذبت الجهاديين إلى داعش، بداية من أفراد انضموا لأغراض عقائدية مربوطة بأفكار الموت والشهادة وضمان دخول الجنة. وهؤلاء دائما اعتلوا مناصب قيادية داخل التنظيم وترأسوا الصفوف الأولى في الهجوم.
وتأتي أنواع أخرى منها الباحثون عن المدينة الفاضلة أو الـ”يوتوبيا”؛ وهم أغلب الظن لم يستهدفوا التضحية بأرواحهم، ولكنهم بحثوا عن خلافة إسلامية بلا خطيئة تطبق معايير الدين بطريقة ترضيهم ولا تقبل المساس بها، بالإضافة إلى مرتزقة ومجرمين اختاروا داعش بحثا عن الثراء والمال.
وتشير الدراسة إلى أن أغلب من جاءوا من شرق آسيا حملوا سجلا إجراميا بين سطو مسلح وقتل وسرقة بالإكراه، ورأوا في داعش تحقيقا لأحلامهم بمكاسب أشمل ومساحة أكبر لممارسة رغباتهم الإجرامية بلا رقيب. وتقول ميرونوفا “البعض لم يخبئ على قادة داعش نيته في البحث عن المال والقتل، وهم لم يرفضوا انضمامه، وذلك أمر غريب يكشف مرونة عقائدهم الزائفة”.
يضاف إلى تلك الأنواع، نمط آخر من المنضمين اختاروا داعش فقط بحثا عن مرتب ثابت وكبير ومكاسب أخرى مادية كسيارات وعقارات داخل المدن التي سيطر عليها التنظيم، بينما البعض أجُبر على الانضمام من مزارعين وأهال بمدن وقرى في شمال سوريا رفضوا النزوح وترك بيوتهم.
وتتناسق رواية ميرونوفا مع ما حكى عنه يوسف العائض -وهو أحد المقبوض عليهم من قبل قوات سوريا الديمقراطية- متحدثا لصحيفة “دي فيلت” الألمانية، حيث يقول إنه مجرد مزارع فقير في قرية ذيبان بسوريا تعاون مع داعش بتقديم حصاد أرضه لسد حاجة جنود التنظيم مقابل جزء من المال والعيش في سلام.
ولا ينكر العائض أنه استحب العمل مع التنظيم لأنه كان يدفع بسخاء وأنقذ المزارعين من الإفلاس والجوع قائلا “يدفعون (مقاتلو داعش) للمزارع 9 دولارات يوميا وهو ضعف الأجر اليومي لشخص آخر في البلاد المجاورة”.
لجأ الكثير من عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية -سواء الأسرى في سوريا والعراق أو الموجودون داخل مخيمات اللجوء التي خصصت لاستقبالهم- إلى إبداء شعور الندم في كل التصريحات الإعلامية والتحقيقات الأمنية لكن ندمهم لا يبدو حقيقيا بل هو خيار فرضته عليهم الظروف المنبثقة عن انحسار التنظيم المتشدد وحملة التضييق المتواصلة عليه.
توجد خمسة أسباب أساسية جذبت الجهاديين إلى داعش، بداية من أفراد انضموا لأغراض عقائدية مربوطة بأفكار الموت والشهادة وضمان دخول الجنة. وهؤلاء دائما اعتلوا مناصب قيادية داخل التنظيم وترأسوا الصفوف الأولى في الهجوم
الكثير من الذين كانوا ضمن تنظيم الدولة الإسلامية أعلنوا ندمهم لكنه لم يكن سوى وسيلة إنقاذ قد تقيهم شر العقاب الذي ينتظرهم، وهو ما يبرز في تعبير الكثير منهم -خاصة من الحاملين لجنسيات بلدان أوروبية- عن رغبتهم في استعادة حياتهم السابقة والقول إن انضمامهم إلى تنظيم داعش قبل سنوات “كان خطأ”.
فهؤلاء يدركون أن منظومة حقوق الإنسان المترسخة في الغرب هي آخر ملجأ لهم للإفلات من العقاب فهم يدركون أن إجراءات إعادتهم ستتضمن في أسوأ الحالات محاكمة تفضي إلى عقوبة بالسجن لفترة محددة تنتهي ليعودوا إلى حياتهم العادية والتمتع بالحرية. لنفس الأسباب يرفض المنتمون سابقا إلى تنظيم داعش البقاء في الأسر لدى قوات سوريا الديمقراطية أو لدى السلطات أو في العراق لأن مصيرهم في هذه الحالة غير مضمون.
صحيح أن الكثير من المنتمين سابقا إلى تنظيم الدولة الإسلامية أبدوا ندمهم لكن لا أحد منهم على الإطلاق أعلن إدراكه أن الجهاد فكرة متطرفة وسلبية تم الاتكاء عليها لتبرير غايات دموية وأهداف لا يربطها أي منطق بحقيقة الإسلام وفهمه الصحيح. فشعور الندم لم يكن مطروحا عندما كان التنظيم المتشدد في أوج قوته ويغدق الأموال على تابعيه وعائلاتهم، بل ظهر هذا الشعور فقط عندما نقصت التمويلات وأصبح حتى تأمين وجبة يوم واحد مهمة صعبة في ظل ملاحقة التنظيم إلى آخر جيوبه.
ورغم أن الكثير من هؤلاء المنضمين لم تكن لهم أهداف متشددة، فإن ذلك لا يسهل مهمة السلطات -في سوريا أو في العراق أو في البلدان الأوروبية- في استيعاب الخطر وقنصه.
ويذهب مراقبون إلى أن استمرار سيطرة داعش على مساحات كبيرة من سوريا والعراق بداية من عام 2014 حتى عام 2018، ومحاولة صناعة كيان لدولة لها شكل ونظام تعليمي وفكري ساعدا في تغيير عقول الكثير من هؤلاء الذين لم يحملوا فكرا متطرفا من البداية. وتزداد الصورة تعقيدا مع صعوبة التوغل داخل عقول الآلاف من الذين قبض عليهم وأضحى البت في مدى تشددهم وكيفية التعامل معهم مسألة ضبابية.
ويعكس تواتر طرق التعامل الدولية مع فلول داعش، مخاطر عدة؛ فدول مثل أوروبا تنأى بنفسها عن استقبال هؤلاء، بينما يرغب الداعشيون الأوروبيون في العودة إلى أوطانهم لضمان محاكمة عادلة وقانون يمكن أن يطلق سراحهم بعد فترة رغم كل ما اقترفوه من جرائم. بينما لا يبحث متطرفون من دول عربية كمصر وتونس عن طريق العودة إلى بلدانهم لأنهم يدركون جيدا أنهم لن يلقوا مصيرا أفضل داخل السجون العربية، بل ربما الخضوع لمحاكمة عراقية أو سورية ستكون أكثر رحمة.
تخبط أوروبي
يقول شارلي وينتر -وهو باحث متخصص في مكافحة الإرهاب والجماعات المتشددة يقيم في الولايات المتحدة- إن غياب الرؤى عن كيفية التعامل مع أفراد داعش بعد هزمهم نهائيا يزيد من خطر تحول هؤلاء إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه أوروبا ودول أخرى.
ويدلل وينتر على التخبط الأوروبي قائلا إنه بدا واضحا من الجدال الواسع الذي صاحب قضية سحب الجنسية من المواطنة البريطانية البنغالية شـــميما بيغوم، التي هاجرت إلى سوريا للانضمام إلى داعش عام 2015، لمنع عودتها إلى لندن، أن هناك تذبذبا واضحا في آلية استيعاب الإرهابيين.
وتكشف أمثلة أخرى ذلك التخبط العالمي وتناقضه، فدول أخرى مثل الولايات المتحدة رفضت بشكل واضح عودة مواطنيها المتطرفين كحالة هـــدى مثنى اليمنية الأصل، بينما عقدت الحكومة الألمانية اتفاقا مع العراق على محاكمة الألمان المقبوض عليهم تحت سلطة القضاء العراقي.
ويشير وينتر إلى أن عدم الإجماع على نظام استيعاب ومراقبة واحد يفرض على العالم الانتظار لخروج “غول” جديد أكثر عنفا وشراسة ويهاجم في مختلف بقاع العالم.
وتبدو الصورة أكثر قتامة مع التحذيرات من أن التنظيمات المتطرفة بدأت في التمحور مجددا لاستيعاب صدمة الهزيمة الكاملة والخروج بتكوين متطرف جديد أكثر تشددا ورغبة في الفتك بالعامة، تماما مثلما تحول المقاتلون الأفغان في تسعينات القرن الماضي إلى تنظيمات متعددة انتهت بتكون تنظيم القاعدة، ومن رحم القاعدة ولد تنظيم داعش، وسيكون على العالم البقاء على وضعية المترقب لمشاهدة ولادة مسخ جديد.
فكرة ولادة تنظيم متطرف جديد بتسمية جديدة لكنه يحمل نفس الأفكار والأيديولوجيا وحتى نفس أساليب الإقناع التي استقطب بها داعش -ومن قبله القاعدة- عناصره، تستند إلى أن فكرة “الجهاد في سبيل الله” وأن “الإسلام مستهدف من قبل الغرب الكافر” وأن أميركا تترأس القوى التي تتآمر على المسلمين لا تزال راسخة في أذهان الذين تم إجلاؤهم من آخر جيب محاصر لتنظيم الدولة الإسلامية في الباغوز بشمال شرق سوريا.
البعض من زوجات المقاتلين اللاتي خرجن في الأيام الأخيرة من آخر جيب لتنظيم الدولة الإسلامية بشمال شرق سوريا أعلن صراحة ودون أي تردد أن إيمانهن بـ”أرض الخلافة” راسخ وأن “الدولة الإسلامية” لم تنته، مبديات عداء صريحا وواضحا للغرب.
فكرة ولادة تنظيم متطرف جديد بتسمية جديدة لكنه يحمل نفس الأفكار وأساليب الإقناع التي استقطب بها داعش -ومن قبله القاعدة- عناصره، أصبحت مطروحة
وبنفس الثقة قالت أرملة أحد مقاتلي داعش وتدعى أم ولاء إنها لم تر مقاتلين أو أشخاصا يحملون السلاح ضد الولايات المتحدة بل رأت الأميركيين يقتلون الكثيرين من الأشخاص، معتبرة أن “أميركا ترهب الناس أكثر من داعش”. وتابعت “رأيت أميركا تقتل المسلمين في العالم كله ليس فقط في سوريا. يجب أن يعرف العالم أن الأميركان إرهابيون”.
هذه التصريحات المدججة بالعداء ضد الولايات المتحدة والغرب بشكل عام ليست سوى مثال عن المشاعر التي تتملك المئات من أتباع ومقاتلي داعش من الذين غادروا المعقل الأخير للتنظيم في شمال شرق سوريا خلال الشهر الماضي.
ومع استعداد قوات سوريا الديمقراطية لشن الهجوم الأخير على تنظيم داعش في جيبه الأخير في الباغوز، يؤكد الخبراء أن السيطرة على هذه المنطقة ستمثل علامة فارقة في جهود محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. ورغم ذلك يقول الخبراء إن التهديدات الأمنية التي يشكلها التنظيم لا تزال مستمرة مع إمكانية شنه هجمات. وكانت كبرى هزائم تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2017 عندما خسر معقليه الرئيسيين في الموصل العراقية والرقة السورية.