عبداللطيف وهبي رئيس مقبل للحكومة المغربية أم زعيم خطابي مزمن
يتصدر في هذا الوقت الخط الإصلاحي داخل حزب “الأصالة والمعاصرة”، كانت له ظروفه الخاصة في الانتقال من تنظيم لآخر، كونه الباحث المصرّ على موطئ قدم في مشهد سياسي لا يعترف إلا بالقوة التنظيمية الهائلة والقاعدة الانتخابية الضاربة والموارد المالية الداعمة لأي تحرك، وهذا ما وجده المحامي والناشط السياسي القادم من حزب الطليعة اليساري عبداللطيف وهبي في “البام” كما يسمّى الأصالة والمعاصرة عندما انضم إليه قبل عشر سنوات، فأصبح نائبا برلمانيا وعضو المكتب السياسي وطموحه أكبر وأوسع.
لا يكتفي وهبي ذي الثامنة والخمسين من عمره بمقر الحزب لتصريف آرائه أو للضغط بها على خصومه ومنافسيه واستجلاب المنافع ودرء المخاطر، بل يستثمر كل منصة للظهور والمجادلة، فهو كاتب رأي ومحاضر في أوقات الفراغ السياسي ومهاجم في ملاعب الإعلام والثقافة، يحب مهنته في عالم القانون ويستفيد منها كسياسي للبروز واستقطاب قضايا لمكتبه رغم أن السياسة تقضم من وقته.
تلك الأدوار التي يبحث عنها، ليست عادية، بل يرى أنها تتوافق مع إمكانياته الخطابية والتدبيرية، ولا يتورع عن تلمّس الطرق ذات الفعالية، وها هو كبعض أمثاله يدفع الماء إلى جهة حزبه دون التنبّه إلى أنه قد يغرق القارب، وذلك عندما يقول إن “الملك محمد السادس يعطف على حزب ‘البام’ إلا أن وضعه الطبيعي يمنعه من الظهور معنا”، ثم أراد التخفيف مما قاله بعد الضجة التي أثارها.
استدعى وهبي براعته كمحامٍ في تدوير الكلمات واللعب بالمفردات، مشددا على أن التصريح تم فصله عن سياقه، وأنه “لم يكن يقصد أن الملك عضو في الحزب أو أي شيء من هذا القبيل، كما فهم البعض، أو أنه من المتعاطفين مع البام دون غيره من الأحزاب”. وحتى يبعد اللهب عن جلبابه رمى بالكرة في مرمى “العدالة والتنمية” بتأكيده أن “عبدالإله بن كيران قوّل نفس الكلام وبعده رئيس الحكومة الحالي سعدالدين العثماني، ولم يقلق هذا التصريح أي أحد، ولا أحد علّق أو ناقش ما صدر عنهما”.
صراع الأجندات السياسية واضح، وإن ظهر وهبي مترفّعاً عن خدمة إحداها، فهو يلعب بجد بهدف إزاحة كل ما من شأنه التشويش على مشروعه في الوصول إلى سدة زعامة الحزب قبل انتخابات 2021، يريد بشدة أن يكون له نصيب من كعكة السياسة، ولغة المقايضة ليست غريبة عنه، فقد هدد بالاستقالة وأقام الدنيا برفضه بقاء الأمين العام السابق في الزعامة وعارض الأمين العام الحالي بكل قوته.
استنبات القراصنة
كثيرا ما كان المال محرّكا للثورات، وسببا في إحداث تغييرات كبرى وعاملا أساسيا في تمويل الفوضى عبر التاريخ السياسي لدول وإمبراطوريات وهيئات سياسية، و”الأصالة والمعاصرة” لا يشذ عن هذه القاعدة، فالكل يتحدث عن الملايين من الدراهم تبخّرت بين عهدي الأمين العام السابق للحزب إلياس العماري والحالي حكيم بنشماس ونائبه أحمد أخشيشن.
ويبدو أن وهبي ينبش في القضية من عدة مداخل لتضييق الخناق على هذه القيادات، وها هو يسائل أخشيشن بصفته وزيرا من الأصالة والمعاصرة، في حكومة ما قبل الإسلاميين، عن مصير أموال المخطط الاستعجالي للتربية الوطنية، التي صرفت دون نجاح المخطط، فالمسؤولية عن اختلاسات، إن وجدت، يريد وهبي تحميلها لشخص واحد دون تلويث الحزب بأكمله.
مسألة الأموال الملوثة داخل الأصالة والمعاصرة نبّه إليها أول أمين عام للحزب حسن بنعدي، عندما تأسّف على استنبات قراصنة فاسدين داخل الأصالة والمعاصرة، وتحداهم في أن يكشفوا ممتلكاتهم وثرواتهم التي لم يكونوا يملكون منها شيئا قبل تأسيس “حركة لكل الديمقراطيين” في العام 2008 والتي كانت النواة الأولى لتأسيس الحزب.
نفس الفكرة عبّر عنها وهبي عندما قال إن سفينة الأصالة والمعاصرة فكرة رائعة يستحقها المغرب، لكن ركب فيها معنا قراصنة حولوا ركابها أي المناضلين والبرلمانيين والمنتخبين النزهاء إلى رهائن لديهم.
حتى غريمه السياسي رئيس حزب الأحرار عزيز أخنوش، كان محط متابعة برلمانية وهُجوم من طرف وهبي الذي اعتبر أن صرف المليارات من الدراهم لعشر سنوات على برامج ومخططات كالمخطط الأخضر، و“أليوتيس” دون تقييم يغذي أكثر أوجه الفساد، واعترض على استوزار البعض من وجوه غريمه بعدما طالتهم اتهامات بالفساد المالي والسياسي.
وبعقلية المحامي يريد وهبي دائما التفاوض والضغط للوصول إلى أحسن صفقة ممكنة، المهمّ عنده الربح من أي وضعية اجتماعية وسياسية بطريقة ما لتحقيق ما يريد هو كسياسي ممارس وأيضا لتقديم الفرصة لحزبه كي يتقدم خطوات أمام خصومه.
العارف بطبيعة الحياة السياسية
يضحك وهبي عندما يتهمه البعض بأنه مثقف السلطة، فالدور التبريري الذي اضطلع به المثقف في الماضي ودفاعه عن قرارات السلطة المنحرفة، لم يعد الآن مبررا مع التطور الذي عرفته وسائل الاتصال ونظرا لانفتاح الدولة ومغازلتها للفكر الحقوقي، وخلق بدايات أولى للمسار الديمقراطي. وهو يرى أنه بعدما انتفض المحافظون في زمننا، وفرضوا أنفسهم في الساحة السياسية، لم يجد المثقف مسلكا واضحا في مساره السياسي، هل يقف في مواجهة السلطة التي في بعض من مطباتها العصف بالديمقراطية، أم يعانق المحافظين الذي هم أيضا يرفعون شعارات الديمقراطية.
لكن وهبي يعرف جيدا طبيعة النظام السياسي المغربي، فقد تربى في كنفه دهرا من الزمن، ويعي جيدا آليات التداخل بين السياسة والدين، كما يفهمها ويمارسها بنهم كبير التيار الإسلامي.
لذلك يقول وهبي بأن الملك محمد السادس يقدم نموذجا يجمع بين إمارته للمؤمنين والممارسة الديمقراطية، كما هي معمول بها في جميع الدول الغربية وذلك في ازدواجية متميزة بين ممارسة الدين والقيام بمهمة تنفيذ نظام ديمقراطي ينبني على التعددية السياسية. ورغم قناعاته السياسية تلك، إلا أن هناك من يعيب عليه الارتماء بين أحضان “العدالة والتنمية” دون شرط أو قيد، حتى من داخل حزبه.
المال قادر على إحداث تغييرات كبرى في الهيئات السياسية، و”الأصالة والمعاصرة” لا يشذ عن هذه القاعدة، فالكل يتحدث عن ملايين الدراهم التي تبخرت بين عهدي الأمين العام السابق للحزب إلياس العماري والحالي بنشماس ونائبه أخشيشن. ويبدو أن وهبي ينبش في هذه القضية من عدة مداخل لتضييق الخناق على تلك القيادات
وعندما سئل عن علاقته ببن كيران، قال “هو صديق وأزوره في بيته”، ولنفي تهمة التعاطف السياسي مع بن كيران أكد بنوع من الخبث الأيديولوجي أنه صديق لإدريس لشكر ونبيل بن عبدالله اليساريين وأنهم جميعا يتبادلون الزيارات. ويبدو أن وهبي تناسى إلى حين مبارزاته البيزنطية مع بن كيران والاتهامات المتبادلة من تحت قبة البرلمان وخارجها.
وسبق لوهبي، أن تقدم بثلاث شكايات ضد بن كيران، عندما كان رئيسا للحكومة، وأمينا عاما لحزبه، يتّهمه بالسب والقذف والحث على الكراهية، ولكن عندما أراد أن يلعب دور الناصح الأمين لصديقه بن كيران وجهه لكتابة مذكراته والترفع عن الخروج المتكرر للحديث في السياسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذه النصيحة لم تجد لها أذنا صاغية، ولا يزال زعيم الإسلاميين يتحدث عبر نافذة مارك زوكربيرغ، وهذا ما يحرج العدالة والتنمية كثيرا في نسخة ما بعد انتخابات 2016.
خيارات شجاعة ضرورية
لوهبي نظرية خاصة في حسن إدارة الاختلاف، فلن يعاني أحد إذا ما تم هذا الأمر باحترافية أكثر، وهو يعتبر أن الوضع السياسي والاقتصادي للمغرب، أصبح يفرض علينا التعامل بنوع من السموّ عند ممارستنا لخلافنا الديمقراطي، ويتطلب من المحافظين القبول بشجاعة باتخاذ خطوات جريئة وتنازلات قوية ومؤلمة والقيام بمراجعات فكرية، وإعادة النظر في الكثير من الممارسات السياسية.
يدافع وهبي عن حق الفكر المحافظ في التعبير عن رأيه وعن حقه في الوجود، بشرط التوقف على توظيف العقيدة أو التهديد بالمساس بالحريات الفردية والجماعية، والحل يكمن في قبول الآخر والانفتاح عليه والدخول معه في حوار مفتوح، حتى نستطيع معا أن نجد حلا وسطا، ومجالا نلتقي فيه حول الثوابت والخيار الديمقراطي.
مستقبل الشراكات السياسية
رأيه في الإسلاميين واحد وإن تلطّف في التعبير، فهو يرى فيهم أناسا يصبغون السياسة بآراء ومواقف فقهية بمن فيهم الأمين العام لجماعة العدل والإحسان الذي لا يدرك طبيعة الوضع السياسي في المغرب.
وعلى هذا الأساس، فالاختلاف الفكري والأيديولوجي مع العدالة والتنمية كحزب سياسي لا يعيق التعامل معه، ولا ينسف كل فيتو للتحالف معه مستقبلا، فهل وهبي جاد إلى الحد الذي يؤسس جملة من أبجديات التعامل مع هذا الحزب الذي يملك قاعدة انتخابية تحت الطلب؟
هل يمكن القول إن وهبي يرى، بحكم اطلاعه على واقع تنظيمه السياسي المنهك، أنه لا مانع من أن يستخدم الخزان الانتخابي للعدالة والتنمية للوصول إلى البرلمان مستقبلا، خصوصا وأن الخزان المالي الذي اعتمده الأصالة والمعاصرة لتمويل حملاته قد تم استنزاف أكثريته من طرف غريمه الجديد التجمع الوطني للأحرار؟
في العام 2017 قدم عبداللطيف وهبي استقالته من رئاسة فريق الحزب بمجلس النواب، وكسياسي براغماتي يؤكد حاليا أن تواصله مع غريمه السابق إلياس العماري إنساني وبعيد عن كل ما هو سياسي، فالرجل التزم الحياد منذ مدة، كما يقول وهبي، أي أنه مادام الرجل بعيدا عن كل تأثير على مجريات الأحداث داخل التنظيم، فهو جيّد بالنسبة لوهبي.
ورغم المطبات والمنزلقات والمشاكل التنظيمية القاتلة لأي فعل سياسي فإن وهبي القيادي متفائل بتجاوز كل هذا الإرث مستقبلا، والحزب مستعد للاعتراف بكل الأخطاء ومواجهتها بشجاعة. لكن لم يحدّد الفترة التي سيتعين عليه الانطلاق في هذه المصارحة مع الذات، لكنه يقول إن العائق الآن يتمثل في الوصوليين والانتهازيين، ومع ذلك فهو مستعد للحوار وتجاوز الماضي بآلامه. ولا يزال وهبي يتحدث من موقع المصلح والمنقذ للحزب، فهل هو مستعد للتعامل مع كل هذا الإرث المتشنج وكيف سيختار مساعديه إذا وقع الاختيار عليه لتزعّم الحزب؟
وبات من المعلوم أن خطابات وهبي عاطفية أكثر في اتجاه الداخل وتقدح الشرر نحو خصومه السياسيين المنافسين خارج الحزب. وهو يريد أن يظهر كعقلاني عندما يقول إن السياسي المحنك من يستطيع تحديد أخطائه ويعترف بها، ثم يصححها ويتجاوزها ليبني المستقبل بشراكة مع الآخرين، فالقبول بالتعددية المبنية على الديمقراطية والحوار الصريح، هو المنفذ الوحيد لحل هذه التشنجات السياسية.
وهبي، الذي يرسم خطه الناظم من خلال البحث عن المصلحة براغماتيا دون الصدام غير الضروري، يعمل بلباقته على تليين بعض المواقف. فنبيلة منيب، الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، من النساء اللاتي يحترمهن وهبي، وهي تعرف حجمها وقدرتها، لكن ما لا يعجبه فيها عدم تطوير أدواتها وخطابها السياسي وهي لا تشكل مواجهة أو تهديدا حقيقيا لتنظيمه، أما حزب الاستقلال فلا يرى فيه سوى طاووس متعال يعارض فقط لأنه خارج الحكومة الآن، وهو ما لا يفيده في شيء. وهو بتلك الانتقادات يمهّد الطريق بتؤدة وحذر تارة وبالضجيج مرات عديدة نحو مناصب قيادية تشبع تطلعاته وطموحاته السياسية.