أودري أزولاي المديرة العامة لليونسكو تبحر في أرخبيل الثقافة والسياسة
نادرا ما يتماهى الشخص مع الدور الذي يلعبه والمهمة التي يؤديها، كما هو الحال مع المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” أودري أزولاي التي مضى على انتخابها على رأس الوكالة الأممية، جارة برج إيفل، في قلب العاصمة الفرنسية، أربعة عشر شهرا. تلك المدة كافية لاستقراء خطة العمل، واستكشاف معالم مسيرة العبور نحو الأهداف التي تشكل رسالة اليونسكو.
أزولاي التي تؤمن بالثقافة ومفاعيل المعرفة في مشروع بناء السلام الكوني، وكذلك بالتعليم والتربية كرافعتي حضارة من العيار الثقيل، سيدة في منتصف الأربعينات من عمرها، تنبض ثقافة وعلما وتربية، سواء في ملامح وجهها، المشرقي البصمة، ومشيتها، أو في طلتها، وإيقاع خطابها الرشيق، السهل الممتنع.
اليونسكو والحاجة إلى الصيانة
المقر الرئيسي لمنظمة اليونسكو في الدائرة السابعة من العاصمة الفرنسية، يبدو من الخارج صامدا أمام عوادي الزمن الباريسي المتقلب، وإن بصعوبة، لأن الصيانة تعوزه، ولم يحصل على هذا الامتياز منذ تشييده بجوار المدرسة الحربية عام 1958. فهنا صناعة السلام تلاصق صناعة الحرب، لكن المظاهر خادعة أحيانا. ووراء أسوار الهدوء الذي يظلل مبنى ساحة فنتنوا، بهندسة معماره المتميزة، تشتعل حروب الأفكار والطروحات والرؤى، كما يقول جاك أتالي المستشار الاقتصادي للرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران ومفكر المستقبليات.
وتضطرم صراعات اللوبيات بين 195 دولة ذات عضوية دائمة في المنظمة. وتلتهب المنافسة بين الشمال والجنوب، وأحيانا داخل كل مجموعة، مع استمرارية الصراع بين العرب وإسرائيل، وبين أنصار الطرفين.
وفي أغلب الأحيان، تقوم متاريس داخل لعبة الكواليس، خصوصا عند المنعطفات الانتخابية، سواء لعضوية “المجلس التنفيذي” المشكل من 58 عضوا ينتخبون لأربعة أعوام، وهو واحد من ثلاث هيئات قيادية أساسية إلى جانب “المؤتمر العام” الذي تلتئم فعالياته مرة كل عامين، و”الأمانة العامة” المخولة لصياغة القرارات والخيارات، وصوغ المبادرات، وهي في حالة جهوزية دائمة.
حقل من الألغام
وإذا كانت اليونسكو معنية أساسا بالتربية والثقافة والعلوم، أي أنها، في محددات عملها وفي صميم مهماتها، بعيدة عن السياسة، فإن هذه الاعتبارات نظرية بحتة. فكل خطوة لها خلفية سياسية. وأي قرار سواء تعلق بالتراث المادي أو غير المادي، أو الطبيعي، فإنه يتنفس سياسة، خصوصا في المناطق المتنازع عليها، إن كان بين اليابان والصين، أو بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين يمضون في تهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس زهرة المدائن. وقد توالت قرارات اليونسكو ذات الصلة بهذا الصراع الوجودي -التاريخي- لمصلحة القضية الفلسطينية، ثقافة، وتاريخا وجغرافيا. ولذلك اعترضت أميركا على هذا “الانحياز”، وقررت الانسحاب من اليونسكو. ونسجت الدولة العبرية على منوالها، غير آبهة بقرارات غير ملزمة، وفي حالة إصرار على تغيير معالم الجغرافيا لتزوير حقائق التاريخ، لكن الفلسطينيين لم يستسلموا. ووثّقوا حقهم في الأرض والثقافة والتراث.
وسط هذا الأرخبيل الثقافي -السياسي- الأيديولوجي، أبحرت أزولاي منذ عام ونصف العام. والإبحار الآمن والواثق يتطلب شرطين متلازمين: مهارات مهنية، وخلفيات سياسية ورؤية لدور منظمة اليونسكو في العالم، من جهة، ودعم لامحدود من الدولة التي تمثلها، وهي فرنسا هنا، من جهة أخرى. تضاف إلى هذين الشرطين قدرة خاصة على إقامة شراكات مع الدول للحصول على “عصب الحرب”، أي المال. والمنظمة الأممية تتخبط في العجز منذ 7 سنوات يوم جمدت الولايات المتحدة تسديد حصتها في الميزانية العامة، وتلامس 22 بالمئة منها، بعد انضمام فلسطين إليها عام 2011.
وبدا أن هذا القرار، في أساس منطلقاته، وكما صاغه الكونغرس مطلع التسعينات، يحظر تمويل وكالة متخصصة في الأمم المتحدة تقبل فلسطين دولة كاملة العضوية. وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت للمرة الأولى من اليونسكو عام 1984. وتبعتها حليفتها بريطانيا، في خطوة مماثلة. وبقيتا خارجها حتى عام 2003 أي طوال 19 عاما، مع إدارة جورج بوش الابن، في غمرة حرب المحافظين الجدد على الدول والأنظمة المارقة، والسعي إلى السيطرة على أجهزة وأذرع الأمم المتحدة والزج بها في نمط من المشاركة المحسوبة.
ووصلت شظايا هذه السياسة إلى منظمة اليونسكو التي كانت بقيادة الياباني كوتيشيرو ماتسورا، الذي خلفته البلغارية إيرينا بوكوفا في ولايتين من 8 سنوات، امتدتا حتى خريف 2017. وغادرت سفينة المنظمة في حال من التعثر المالي والارتباك الإداري والتيه البرامجي. إذ تعاظم العجز المالي بسبب ارتفاع المترتبات المالية الأميركية العالقة، قرابة 400 مليون دولار إلى حينه، وتفاقم حال الفوضى.
ما الذي ورثته أزولاي
انطفأت قطاعات حيوية واستراتيجية في أجندة اليونسكو، مثل الثقافة وغيرها، بسبب العشوائية والزبائنية والضغوط السياسية الخارجية. وهنا لا بدّ من النظر بإعجاب إلى شجاعة هذه الفرنسية المغربية في اقتحام السباق والفوز بمنصب لقيادة منظمة طليعية في مجالات اختصاصها، لكنها مصابة بصدوع وتصدعات بنيوية عميقة. وهي في حاجة إلى إصلاحات بعيدة المدى لكي تواكب التحولات المعاصرة، خصوصا في القطاع الأساسي وهو التربية صعبة المراس واستراتيجية الطابع. وقد أصبحت رقمية بعد انتهاء زمن التلقين واللوح الأسود والطبشور الأبيض. ولا بد من شبكة أدمغة لقيادة هذا التحول النوعي ومترتّباته.
ورثت أزولاي أوضاعا في غاية الصعوبة من المديرة العامة السابقة التي أفلت الزمام من يدها في نصف الولاية الثانية والأخيرة. إذ انصرفت إلى تلميع صورتها عالميا للحصول على تأييد الدول لترشحها لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، خلفاً للكوري الجنوبي بان كي مون.
وأدركت أزولاي هذا الواقع المؤلم. وقررت مواجهته بكل ما أوتيت من طاقة إيجابية. وفي أول تصريحاتها بعد تقلدها الموقع المرموق، ركزت على إصلاح المنظمة. وأدرجته في قمة أولوياتها، حتى أنها وصفت الأوضاع بـ“الكارثية“. ولم تكن تغالي في ذلك، لأن الرأي السائد كان مشدودا إلى إعادة الهيكلة وإعادة البناء بعدما عصفت السياسة في خيمة اليونسكو وكادت أن تطيح أوتادها. وحزمت أزولاي أمرها، واجتازت في اليوم الأول لوصولها إلى الطابق السادس في المقر الرئيسي حيث تقع مكاتبها، حقلا من الأنقاض الإدارية والمالية والوظيفية. فسارعت إلى ملء الفراغات لإعادة القطار إلى السكة. ثم عكفت على تشكيل فريق المساعدين والمستشارين حولها. والحق يقال بموضوعية أنها تصرفت بعقلانية ومهنية، وغلبت اعتبارات الشفافية والتوازنات الجغرافية. ولذلك نرى شخصية عربية بين نوابها، تتحدّر من تونس، لكن فريق الحلقة الضيقة حولها يتشكل في غالبيته من فرنسيين، حتى أنه قد قيل في أروقة اليونسكو إن أودري أزولاي تعتبر أن ديوانها امتداد لإحدى الوزارات الفرنسية.
لا شك أن في الأمر إيجابيات، كما أنه ينطوي على سلبيات في نظر عدد من المراقبين. فالمديرة العامة أبصرت النور في باريس. ودرست في معاهدها، وتخرجت من جامعاتها، كما من المدرسة الوطنية للإدارة، وهي منجم أو مشتل الكوادر العليا البيروقراطية الفرنسية. ثم التحقت عام 2006 بـ”المركز الوطني الفرنسي للتصوير السينمائي”. وتسلّقت السلّم الوظيفي بفضل مثابرتها وذكائها ومهنيتها. فتسلمت منصب نائبة مدير لشؤون الوسائط المتعددة. وتقلبت في أدوار ومهمات أخرى، ملامسة أعلى الوظائف في هذا المركز. وأعجب بأدائها الرئيس السابق فرنسوا هولاند فجعلها مستشارة له للشؤون الثقافية، وصولا إلى توزيرها وإسناد حقيبة الثقافة إليها في حكومتي مانويل فالس الثانية وبرنار كازنوف.
إحياء روح الموصل وتدمر
أتت المديرة العامة ذات رقم 11 على رأس اليونسكو إلى المنظمة الأممية للتربية والثقافة والعلوم، إذا، من خلفية ثقافية بعيدة المدى، وكثيفة المبنى والمعنى، سواء لجهة عائلتها أو من ناحية مسارها الشخصي والمهني والوظيفي. كما أنها تتكئ إلى دعم كامل ومتكامل من الرئيس إيمانويل ماكرون الذي جند وزارة الخارجية “الكي دورسيه” في خدمة ترشحها للمنصب الأول. ولم يعد هذا الأمر من أسرار الجمهورية الخامسة. حتى أن ماكرون قال بنوع من الخيلاء والاعتزاز في إحدى إطلالاته التلفزيونية، ردا على سؤال حول إنجازات حكمه، إن انتزاع إدارة اليونسكو هو إحدى النقاط المضيئة في سجله أو الإنجازات الباهرة لولايته.
ولا غرابة بعد ذلك أن تتبنى أزولاي برامج ومشاريع الحكومة الفرنسية وتلبسها رداء اليونسكو، مثل حملتها الهادفة والمركزة لحماية التراث في مناطق النزاع، و”إعلان فلورنسا” المنبثق عنها، وهو يجرم تدمير المواقع التراثية. وهذه مبادرة مشتركة بين فرنسا ودولة الإمارات العربية المتحدة واليونسكو.
وقد تبلورت يوم كانت أزولاي وزيرة الثقافة في آخر حكومات عهد الرئيس السابق فرنسوا هولاند. وكانت قد أثنت على الدور المفصلي للشيخ محمد بن زايد آل نهيان نائب رئيس دولة الإمارات، في مبادرة تأسيس صندوق في جنيف لترميم ما دمرته الحروب والإرهاب. ونسج رئيس معهد العالم العربي جاك لانغ على منوال الشكر والتقدير ذاته لولي عهد أبوظبي، علما أن لانغ هو أيضا وزير ثقافة سابق. وكان أيضا “سفيرا” للرئيس فرنسوا هولاند، سعى لجمع التمويل اللازم لإعادة تأهيل المدن الأثرية العريقة والمهددة.
ولا شك أن أول إنجازات أزولاي كان رعاية مؤتمر دولي في 10 سبتمبر الماضي بعنوان “إحياء روح الموصل”، وقيل يومها إن منظمة اليونسكو، من خلال دورها في ترميم الموصل، تتطلع إلى ترميم سمعتها أيضا. ولذلك قالت أزولاي “إن المنظمة تريد أن تتخذ من إعادة إعمار مدينة الموصل العراقية سبيلا لاستعادة صدقيتها وإظهار كيف يمكن إنعاش كيان تعددي منهك مثل اليونسكو”. وشددت على رغبتها في استعادة نبض المدينة وتنوعها وتاريخها، مع استخدام برامج اليونسكو التعليمية في مكافحة التطرف العنيف. وتبين أن أزولاي حريصة على إشراك اليونسكو في أعمال ترميم وإصلاح سوق الموصل والمكتبة المركزية التابعة لجامعة المدينة وكنيستين ومعبد لليزيديين.
التعددية خيار الأمم
اللافت أن أزولاي تقف في نقطة وسطية بين مبو الثائر على الهيمنة الأميركية وبوكافا التي رفعت الراية البيضاء أمامها. فهي ترفض مثلا الأحادية الأميركية في السينما واللغة والإنتاج الفني والإبداعي، وتدعو إلى إعلاء شأن التعددية في كل المجالات والقطاعات. وتدخلت بين الإسرائيليين والفلسطينيين لمنع مواجهة وصوغ تفاهمات تجنب المنظمة زلازل سياسية من الصعب احتواء مفاعيلها.
ولذلك آثرت أزولاي سياسة القوة الناعمة مع نزعة إلى ترجيح كفة الرؤى الفرنسية للتراث والثقافة والتربية والعلوم. وهذه نقطة قوة لديها، في تركيز واضح ودفاع أوضح عن “الاستثناء الثقافي الفرنسي”، في مواجهة القدرات الأميركية الهائلة. وقد يرى بعضهم فيها نقطة ضعف أيضا لأنها على رأس منظمة من 195 عضوا، لكل واحد أجندته وأولوياته وطموحاته. ولا ضير في تشجيع الفرنكوفونية وتكريس لغة فولتير وموليير في أروقتها.
أزولاي على يقين من أن العامل الثقافي لعب دوره في علاقات فرنسا مع العالم، وخصوصا مع الولايات المتحدة. ويبدو أن رهان المديرة العامة على الصين لتعويض خسائر الانسحاب الأميركي، كما فعلت اليابان خلال الخروج الأميركي الأول في زمن رونالد ريغان، الرجل الذي وصل إلى البيت الأبيض كممثل سينمائي آتيا من استوديوهات هوليوود.
والسؤال الساخن الآن؛ كيف يمكن أن تعطل أزولاي لغم تهويد القدس في منظمة اليونسكو المعنية بحماية التراث ومنع مسخه وتشويهه؟ نعرف أن إسرائيل تتهيب كل ما هو فلسطيني حتى وإن كان أنشودة فولكلورية. وقد أصيبت بالهذيان جراء قصيدة محمود درويش “عابرون في كلام عابر”. وقال يومها رئيس الوزراء الأسبق إسحق شامير، في افتتاح الكنيست في 28 أبريل 1988 “وكان في إمكاني أن أقرأ القصيدة أمام البرلمان، لولا أنني أربأ بأن أمنحها شرف تسجيلها في محاضر الكنيست”.
لا شك أن أزولاي بدأت تترك بصمتها المميزة على العديد من الأنشطة، علما أنها ليست مطلقة الصلاحية، وملزمة بميثاق المنظمة من جهة، وباستراتيجية “المؤتمر العام” وقرارات “المجلس التنفيذي” من جهة أخرى.