المغرب يثير فضيحة في باريس
قررت جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان-أسدوم والتي أسسها في فرنسا حقوقيون ولاجئون سياسيون مغاربة منذ ثلث قرن، تنظيم ندوة بباريس لتناول وضعية الصحافة بالمغرب ومنها قضايا اعتقال بعض الصحافيين المنتقدين للسلطة كحميد المهداوي وتوفيق بوعشرين وربيع الأبلق وغيرهم. كان ذلك يوم 15 فبراير على الساعة السابعة مساء.
بعد أن أعطى رئيس الجمعية الداعية للقاء الكلمة للكاتبة العامة لإلقاء كلمة المنظمين، بدأت تحركات مريبة وهمسات مشوشة بالقاعة. ثم بدأ بعض الأشخاص الذين لم يرهم أحد من قبل مشاركين في نشاط حقوقي أو مدني مغربي بباريس، يصرخون من حين لآخر. ثم وقف أحدهم، يسانده آخرون، لسب المتدخلين والمنظمين بكلام نابي. ثم بدأ شباب من أصل إفريقي جنوب-صحراوي يصرخون ويسبون بالفرنسية ويرددون شعارات لصالح النظام المغربي بآخر القاعة حيث كنت جالسا. قال أحدهم «آآش المليك» وكان يعني بها عاش الملك. قال له بالفرنسية شاب جالس بالقرب مني: نحن لسنا ضد الملك، نحن هنا من أجل إطلاق الصحافيين المعتقلين ظلما وليس لشيء آخر. لم ينتبه الشاب الجنوب-صحراوي الطويل القامة لما قاله جاري ثم أعاد الكرة يصرخ ويسب وهو واقف. بعد حوالي ربع ساعة ساد القاعة هرج ومرج. وقف رجل ذو بذلة أنيقة يتكلم موجها كلامه للمنظمين. قال: يجب إعطاؤهم الكلمة. أيدته بعض النساء الجالسات بالصف الأول. تناسى الرجل أن المتدخلين كانوا بالكاد قد بدأوا يعرضون ورقاتهم وأنه أصلا لم يطلب الكلمة أحد. بدأت كراسي تتحرك بالقاعة محدثة بعض الصرير. انضاف هذا للضوضاء العامة فأصبح واضحا أن في الأمر إن. وكما سيحلل بعض الصحافيين ممن حضروا اللقاء: كان هناك من الحضور حوالي سبعين شخصا منهم خمسة عشر فردا هدفهم نسف الندوة. واغلب هؤلاء الأخيرين لا يعرفون لا موضوع الندوة ولا هدفها. ورغم رفع الكراسي وتهديد الحاضرين بها واستعمالهم كلمات نابية فإنهم كانوا يفعلون ذلك بمهنية ظاهرة لم ينتج عنها إلا جرح بسيط واحد. كما أنهم كانوا منضبطين لرجلين أنيقي اللباس لم يُسمعا القاعة، والحق يقال، أية كلمة سوء. ازداد الصراخ لما أخذت خديجة رياضي الكلمة حتى أصبح لا يكاد يسمعها أحد. تابعت السيدة الحاصلة على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان كلامها برباطة جأش، فهي جندي لا يشق له غبار في مثل هذه السياقات. أشارت رياضي وقد رفعت صوتها إلى الواقع الحقوقي المر بالمغرب حيث يعتقل الصحافيون لأسباب لا علاقة لها بالقانون. ازداد غيظ زعماء الجوقة الناسفة. نشطت الاتصالات بين مقدمة القاعة حيث كان يجلس الطرف القائد والأنيق للجوقة الناسفة والجزء الخلفي حيث تقعد «فرقة الصدام» المتأهبة للانقضاض على الحاضرين أو هكذا يظهر. ولأن القاعة أصبح أكثرها وقوفا، تسلل أحد من الجوقة لقطع أسلاك العداد الكهربائي. أصبحنا الآن في الظلام وازداد قلق الجميع الا أن أغلبية الحاضرين بقوا صامدين داخل القاعة إلى أن أطلقت «فرقة الصدام» قنبلة كريهة انبعثت إذن رائحة لا تحتمل، ورغم أنها كيميائية التكوين، فإنه يُتخيل للإنسان وكأن هناك مصدر عفونة عضوي وقوي جدا. وللاختصار… اضطر إذن آخر المعتصمين بالقاعة للخروج.
النظام المغربي يذبح الحريات العمومية ذبحا وأن الصحافيين الأحرار هم بعض من ضحاياه الأولين
هكذا نسفت بطريقة «مهنية» الندوة التي كانت تهدف إلى القول أن النظام المغربي يذبح الحريات العمومية ذبحا وأن الصحافيين الأحرار هم بعض من ضحاياه الأولين. لكن ما لم يتخيله منظمو النسف أنهم عروا عن واقع الحريات الأليم بالمغرب أكثر مما كان سيفعله أي من خطباء الندوة. هكذا اهتم الإعلام الفرنسي والمغربي والعربي بالندوة وبأهدافها وبالهوية السياسية والاستعلاماتية لمن نسفها. بل أن منظمات المجتمع المدني الدولي اهتمت بالأمر إذ أصدرت مراسلون بلا حدود بيان إدانة كما فعلت لجنة حماية الصحافيين نفس الشيء. كذلك دعت جمعيات المهاجرين المغاربة بفرنسا إلى تنظيم مظاهرة أمام السفارة المغربية بباريس للاحتجاج على سياسات خنق حرية الرأي والحريات المدنية بالمغرب والتي أصبحت الآن سلعة قابلة للتصدير.
ذكرتني هاته الواقعة-الفضيحة بأخرى حدثت بفرنسا أيضا منذ عشرين سنة ونيف. كانت الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان قد نظمت في صيف سنة 1998 بمدينة مونبولييه ندوة حول واقع حقوق الإنسان بتونس وكولومبيا وذلك لأن البلدين كان يشاركان في مباريات كأس العالم لكرة القدم التي كانت جارية آنذاك بفرنسا. وكان المتدخل من الجانب التونسي هو المعارض والحقوقي المعروف كمال جندوبي والذي سيصبح بعد الثورة التونسية لـ 2011 وزيرا للمجتمع المدني وحقوق الإنسان. لما وصلتُ القاعة أنا وصديقين لي وكنا نعيش في مونبولييه منذ سنوات للدراسة، لا حظنا أن هناك مجموعة كبيرة من المغاربيين لا نعرفهم حاضرين. استبشرنا خيرا فقضية حقوق الإنسان قد تجلب بسبب الحالية مثلا أناسا لا يهتمون بها عادة. ألح هؤلاء وكان عددهم حوالي العشرين في أن يكونوا أول من يتدخل بعد المحاضرين والمنظمين. أعطيت الكلمة للأول وكان شابا في العشرينيات من عمره. قال الشاب: كنت مارا صدفة من هنا ورأيت ملصقا يخبر المارين بهذه الندوة، فقلت في نفسي: هه؟ هه؟ هناك ناس يهتمون بحقوق الإنسان في بلاد؟. هه؟ هه؟. مستحيل أن يكون هذا أمر عادي ونزيه. لم لا يهتمون بما يقع في الصين أو أمريكا؟ إنكم تحكون خرافات لا علاقة لها بالواقع…ثم سرد بسرعة فائقة كل المنجزات الاقتصادية والاجتماعية لنظام بنعلي. الغريب أن ثلاثة أو أربعة متدخلين شباب آخرين، قاموا بترديد نفس التدخل تقريبا. بل العجيب أنهم كانوا يبدأون كلهم بعبارة: كنت مارا من هنا صدفة…وقلت في نفسي هه هه.
أصبحت القاعة تضحك كلما بدأ أحد منهم تدخله. طلبتُ الكلمة، فأحدثوا ضجيجا كبيرا لكن رئيس الجلسة أعطاني الكلمة قلت أن بنعلي أصبح، إلى جانب النسيج والزيت، يصدر القمع.
كذلك…وقف «المكلفون بمهمة» وأتى واحد منهم ليوجه لي لكمة قوية في الظهر. وأتى آخرون لأخذ صور لي…اقترب مني السيد أنطونيني رئيس الرابطة بمونبيلييه وقال لي يجب أن نخرج معا فقد انتهى الاجتماع.