الجزائر: المخاض العسير لميلاد القوة الشعبية الثالثة
يمثّل خروج مئات الآلاف من أبناء الشعب الجزائري إلى الشوارع خلال المظاهرات التي شهدتها البلاد الجمعة الماضي نقلة ملفتة للنظر لم تألفها الجزائر على مدى سنوات كان يخيّل فيها أن الشعب الجزائري قد استقال جماعيا ونهائيا من الشأن السياسي، وقد علمتُ من شخصيات سياسية فاعلة أن الجمعة القادم سيشهد ضغطا شعبيّا متواصلا في صورة مظاهرات جديدة، إذا لم يلجأ النظام الجزائري إلى منعها مسبقا بحجة أنها تتعارض مع القوانين التي ينص عليها دستور البلاد.
وفي الحقيقة فإن هذه المظاهرات تشير إلى بدايات تشكل قوة سياسية ثالثة ذات طابع شعبي، يمكن إذا أسست لنفسها برنامجا فكريا وسياسيا، وهوية تنظيمية شعبية جماعية، أن تتحوّل إلى قوة ضاغطة تتجاوز كلا من النظام الحاكم المتسلّط، وظاهرة الأفراد الذين يرشّحون أنفسهم في المناسبات الانتخابية فقط، وفلول المعارضة التقليدية المتمثّلة في الأحزاب التي لا تملك الطاقة التي تمكّنها من إحداث التغيير الجوهري على مستوى البنية السياسية، والتي عجزت منذ ولادتها على أن تتحوّل إلى قطب جاذب للشعب وخاصة شريحة الشباب.
وهناك تحليلات تذهب إلى القول بأن هذه المظاهرات التي سمحت بها السلطات، رغم أن الدستور يمنع القيام بها دون رخصة مسبقة، هي مجرّد بالونات اختبار أراد النظام الجزائري أن يفهم على ضوئها حجم الضغط المدني في الجزائر. ولو كان الأمر عكس ذلك فكيف يمكن تفسير التأطير غير المباشر للأمن الجزائري لمظاهرات الجمعة الماضي بشكل خاص، ولماذا لم تبرز في هذه المظاهرات أيّ قيادة تتكفل بقيادة الآلاف من الشبان المتظاهرين؟
في هذا السياق يمكن للمراقب العارف بذهنية النظام الجزائري أن يضع عدة علامات استفهام بخصوص تكتيك السلطة المتمثل في اعترافها بحق المواطنين في التعبير عن آرائهم، وكذا اعتراف أحزاب الموالاة بحق الشباب في التظاهر السلمي فجأة، علما أن المظاهرات المذكورة استهدفت بنية السلطة بكاملها بما في ذلك أحزاب الموالاة بالذات باعتبارها واجهة للنظام في الجزائر.
وبناء على ما تقدّم فإن الشعارات التي رفعها المتظاهرون تتجاوز مجرد المطالبة بالإصلاحات، بل هي شجب كامل لبنية النظام الحاكم والدليل على ذلك هو تنديد المتظاهرين بالوزير الأول أحمد أويحيى وبعدد من رموز النظام، فضلا عن رفضهم الصريح للعهدة الخامسة ومطالبة الحكومة بالرحيل.
انطلاقا من هذه الاعتبارات يرى عدد من المراقبين السياسيين أن صحوة جزء من المواطنين الجزائريين، وعودتهم إلى الساحة السياسية لا تعني أن النظام الجزائري فقد كليّا القاعدة الشعبية التي مافتئ يعتمد عليها لتمرير سياساته، وفي هذا الخصوص نجد من يردد على مستوى الشرائح الوسطى أن السلطات وأحزاب الموالاة لم تلجأ بعد لاستعراض رصيدها الشعبي في صورة تنظيم تجمعات مليونية، عدا ذلك التجمع الذي شهدته القاعة البيضاوية منذ أيام قليلة وشارك فيه حوالي 20 ألف مواطن، ويقال إن أغلبهم يمثلون الترسانة الانتخابية للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ومريديه.
وتفيد الأخبار التي يروّج لها أقطاب النظام الجزائري في وسائل الإعلام التابعة له أن الأيام القادمة ستشهد تظاهرات، يشارك فيها الملايين على مستوى المحافظات وفي العاصمة تأييدا لترشح الرئيس بوتفليقة. والواضح أن إصرار مدير حملة الرئيس بوتفليقة، عبدالملك سلال، والوزير الأول ورئيس حزب التجمع الديمقراطي أحمد أويحيى وغيرهما من رجال السلطة على الاحتكام إلى الصندوق واحترام الدستور الذي لا يوجد به بند واحد يمنع ترشح بوتفليقة، يدخل في إطار صراع الهيمنات السياسية بالدرجة الأولى، حيث يعني ذلك أن النظام الجزائري يراهن على نقل الصراع إلى العمق الشعبي وإجبار المعارضة إلى قبول الأمر الواقع المتمثّل في الخضوع لقوانين النظام الرئاسي والدستور الذي خاطه الرئيس بوتفليقة على مقاس طموحاته السياسية، ولم يقابل ذلك بعصيان شعبيّ مؤطر من طرف المعارضة وتنظيمات المجتمع المدني في الوقت المناسب، قبل أن يدخل المسمار في الخشبة كما يقول المثل الشعبي. ويرافع سلال بقوله “لا أحد يملك الحق في إلغاء حق بوتفليقة في الترشح، وذلك بحكم الدستور الذي يكفل حق كل الجزائريين في الترشح للانتخابات”، كما نجده يدعو المعارضة إلى التزام قواعد الانتخابات التعددية قائلا “اتركوا الصندوق والشعب يفصلان في 18 أبريل”.
تحذيرات الوزير الأول أحمد أويحيى من إمكانية انزلاق المظاهرات إلى ما لا تحمد عقباه تدخل في إطار سياسات تخويف الشعب، قبل المعارضة، من تكرار سيناريو العشرية الدموية أو تجربتي ليبيا أو سوريا المأساويتين، ولا شك أن خطاب أويحيى لا ينطلي على أحد، حيث أنه يهدف جوهريا إلى تجميد الإرادة الشعبية بواسطة اللعب على وتر حساس، وهو التلويح بعودة الإرهاب الذي اكتوى بناره الشعب.
ثمة آراء تؤكد أن الموقف الرافض للعهدة الخامسة من طرف قطاع معتبر من الشعب الجزائري هو في الحقيقة شجب لثقافة الحكم الأحادي والشللي من جهة، ونكاية في الطابور الخامس الذي يختبئ وراء قناع الرئيس بوتفليقة ويتكلم باسمه -منذ تعرّضه للمرض المزمن الذي أبعده عن العملي السياسي الميداني المباشر وعن التواصل مع شعبيه وجها لوجه- وذلك من أجل نهب الثروة والسيطرة على مناصب النفوذ من جهة أخرى.