الإعلام الجزائري يدفن رأسه هربا من هدير أصوات الاحتجاجات
يواجه الإعلام المحلي في الجزائر موجة انتقادات شديدة من طرف الشارع، على خلفية تجاهله للمظاهرات الحاشدة التي عاشتها البلاد، للتعبير عن رفض ترشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، وللتنديد بالمحيط الموالي للسلطة، فضلا عن دخوله في حملة الالتفاف على حراك الشارع وإفراغه من محتواه.
واهتز قطاع الإعلام في الجزائر على خلفية قرارات استقالة مفاجئة لصحافيين من مناصبهم، فبعد إعلان رئيسة تحرير في القناة الإذاعية الثالثة الحكومية مريم عبدو عن تقديم استقالتها من منصبها للمسؤولين على خلفية التغطية غير المهنية للحراك الشعبي وللمظاهرات التي كسرت حاجز الصمت السياسي بعد عقدين من القيود والتكميم، قدم الإعلامي أنس جمعة من مجمع البلاد للإعلام الخاص استقالته.
وجاءت استقالة عبدو وجمعة لتضاف إلى جوّ الامتعاض الذي يسود قاعات التحرير في معظم المؤسسات الإعلامية، بسبب حالة الحرج التي تلف هؤلاء، جراء وقوعهم بين مطرقة أوامر مسؤولي التحرير، وبين مطرقة الضمير المهني واستياء الشارع من إعلامه الذي يموّل من مساهمات المواطنين في الصناديق والمؤسسات الحكومية.
وتفاجأ الشارع الجزائري بتجاهل وسائل الإعلام للمظاهرات الحاشدة، التي خرجت الجمعة الماضي في مدن ومحافظات الجمهورية للتعبير عن رفض العهدة الخامسة والتنديد برموز السلطة التي تدفع باتجاه خيار الاستمرارية.
وظلت التلفزيونات الخاصة والحكومية تبث برامجها كالمعتاد إلى غاية ساعة متأخرة من مساء الجمعة، رغم أن الشوارع التي تحاذيها كانت تصرخ بمختلف الشعارات المناوئة للسلطة ولترشيح بوتفليقة والمحيط القريب منه، وهو ما أثار استياء كبيرا لدى الشارع الجزائري الذي اتهمها بـ”الخيانة” وبـ”الانبطاح للسلطة”.
جزائريون يتهمون مؤسسات إعلامية بالانبطاح للسلطة، وسط صمت إعلامي حيال تحركات الشارع ضد الولاية الخامسة
وردد متظاهرون في ساحة أول ماي بوسط العاصمة، شعارات تتساءل عن وسائل الإعلام، التي دأبت على مساءلة المواطنين على أدق التفاصيل، وتجاهلت الحراك غير المسبوق في البلاد، وتساءلوا عن سرّ عدم اهتمامها بالوضع الداخلي، رغم أن جميع وسائل الإعلام العالمية صوبت أنظارها نحو الجزائر.
ووجد الكثير من الصحافيين والإعلاميين أنفسهم في حالة حرج شديدة، نتيجة عدم سماح المؤسسات التي ينتسبون إليها بتغطية الحراك الشعبي بمهنية ونقل الصورة الحقيقية للبلاد، وهناك من عبر عن خجله من عدم التوفيق بين الضمير المهني وأوامر المسؤولين داخل تلك المؤسسات، ووصف مهنة الصحافة في بلاده بـ”مهنة العار”.
وكتب الإعلامي قادة بن عمار “نحن لم ندرس الصحافة للتعتيم على الناس، أو للتعتيم على وطن برمته.. ما حدث بالأمس، ليس مجرد جريمة ضد المهنية، وإنما جريمة ضد الحقيقة”، في إشارة إلى التكتم والتعتيم اللذين يمارسهما عموم الإعلام الجزائري على الحراك الشعبي في البلاد.
وفي تسجيل صوتي عبر الإعلامي رياض بن عمر، عن وجع داخلي بالقول “أكثر ما يؤلم قلب الإنسان عندما لا يستطيع الوقوف مع أخيه.. أنا جزائري همك هو همي، ودمك هو دمي، واجبي إيصال صوتك بل صوتنا جميعا وليس صوتك وحدك.. لا لإسكات الصحافيين نعم لحرية التعبير”.
وطالب الإعلامي رضوان دردار الصحافيين الجزائريين بأن يقفوا وقفة تأمل في مراجعة أخلاقيات مهنتهم.
وقال دردار في تصريح لـه “اليوم، وبعد المسيرات المناهضة للعهدة الخامسة وموقف إعلام العار منها، على الصحافيين أن يقفوا وقفة تأمل في متاعب مهنتهم وأخلاقياتها، وهيمنة أخطبوط المال والسياسة عليها، خاصة لما أصبحت الجماهير تقود قطعان المثقفين نحو الحرية وتفضح وتعري إعلام العبودية وتنتصر للجزائر الأبدية”.
ولفت إلى أن حراك الـ22 من فبراير يتقاطع في الكثير من المفاصل مع حراك الخامس من أكتوبر 1988، فكلاهما يبحث عن الحرية، وأنه كما انتفض الصحافيون آنذاك ضد رقيب إعلام الحزب الواحد، عليهم أن ينتفضوا لكسر سطوة الرقيب الحالي، خاصة وأن المسألة باتت تتعلق بقضية مواكبة قطار سريع أو التخلف عن ركوبه.
ويتخبط قطاع الإعلام الجزائري في وضع مكبل بالقيود والضغوط، خاصة بعد هيمنة رجال أعمال ونافذين عليه خلال العقدين الأخيرين، وبروز مؤسسات إعلامية لا تحترم قدسية المهنة ولا الحقوق المهنية والاجتماعية للصحافيين، مما خلق مناخا تفتقد فيه محفزات الاحترافية والعمل الصحافي.
وعبر دردار عن امتعاضه من الوضع الذي يعيشه القطاع في بلاده، بواسطة صورة وضعها على جداره الخاص، تتضمن تناقضا صارخا في انحدار مستوى المهنية، ففي جزء منها لا وجود لأي كاميرا أو آلة تصوير توثّق حشدا كبيرا من متظاهري الجمعة، وفي الجزء الآخر عدد معتبر من ميكروفونات القنوات التلفزيونية أمام طاولة خطاب المنسق العام لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم معاذ بوشارب، خلال تجمعه الشعبي، السبت، في مدينة وهران.
ولم تتمكن القنوات التلفزيونية الحكومية والخاصة، من الخروج من مأزقها يوم الحراك الشعبي، إلا بعد بث وكالة الأنباء الرسمية لبرقية في ساعة متأخرة من مساء الجمعة، تتحدث فيها عن المظاهرات والاحتجاجات، وشكلت خارطة طريق لهؤلاء، حيث استلهمت منها أغلبية الصحف الورقية عناوينها في اليوم الموالي.
واعتبرت البرقية بمثابة إشارة خضراء من رئيس التحرير الوهمي، في التعاطي مع الحراك الشعبي، بشكل تشتم منه رائحة الالتفاف حول المطالب الصريحة المرفوعة، وتم التركيز على تفاصيل التغيير والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما اعتبره ناشطون ناقمون على الإعلام المحلي، خطة لإفراغ الحراك من محتواه.