أنسنة الدواعش من جديد.. الأكذوبة الكبرى

تبدّلت كل المعطيات في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في سوريا والعراق، وكلها تشي بموت سريري لتنظيم الدولة الإسلامية أحد أكثر التنظيمات الإرهابية دموية التي اجتاحت العالم في العشرية الأخيرة.

وتزامنا مع حدوث هذه المتغيرات الهامة تعالت العديد من الأصوات التي تقودها سياسات الولايات المتحدة الداعية لوجوب إعادة المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية، فيما تتمسّك أوروبا ودول أخرى شارك بعض مواطنيها في الحروب الدامية التي شنها تنظيم داعش في سوريا والعراق وليبيا بضرورة محاكمة الدواعش في البلدان التي ارتكبوا فيها جرائم ضد الإنسانية.

هذا الجدل الجديد المتمحور حول محاولة إنتاج مقاربات تدفع لإعادة إدماج المتطرفين في المجتمعات أو إحياء إنسانيتهم المفقودة بحكم الأدبيات التي تلقوها في صفوف التنظيم الإرهابي، يستدعي وجوبا العودة إلى بعض صفحات التاريخ للوقوف على حقيقة تكاد تكون ثابتة ومفادها أن غالبية من انضم إلى تنظيم متطرف ليس بإمكانه استعادة آدميته بحكم ما تلقاه من أدلجة قائمة على شعارات دينية مغلوطة تقود عادة إلى ارتكاب جرائم وحروب دموية.

وفي قلب الحديث عن المقاربات المتمسّكة بإعادة المتطرفين إلى بلدان المنشأ، لا يمكن تناول المسألة أيضا دون الرجوع إلى تجارب مقارنة كانت مرفوقة بنفس الجدل ومن ذلك مثلا التجربة الجزائرية التي اكتوت بنيران السلفيين المتطرفين العائدين من أفغانستان خلال العشرية السوداء التي أحرقت الأخضر واليابس قي الجزائر من عام 1991 إلى عام 2002.

ولا يمكن أيضا المرور على ما يعرفه العالم اليوم من تباين في المواقف بشأن مصير مقاتلي داعش وأسرهم وأطفالهم دون الرجوع إلى ذلك الإجماع اللاّمتناهي لدى الباحثين والمختصين في الجماعات المتطرفة بشأن المأساة التي عاشت على وقعها الجزائر.

و لم تكن لتحدث هذه المأساة الإنسانية لولا طاقة العنف التي تفجّرت على أيدي الإرهابيين الجزائريين الذين عادوا من أفغانستان، فهم كانوا يمثلون الجيل الأول من المتطرفين الذين عادوا إلى بلدانهم، وفي ما بعد أسسوا للجيل الثاني من الإرهابيين الذين زرعوا الخراب في عدد من الدول العربية مروراً إلى الجيل الثالث من الإرهابيين الذي يعتبر داعش الحضن الجديد له.

ورغم محاولات إعادة إدماجهم في صفوف المجتمع الجزائري انطلاقا من عام 1992، فإن المتطرفين الجزائريين المتأثرين بالمنهج السلفي في أفغانستان، بعدما قاتلوا ضد الاتحاد السوفياتي، متسلحين بدعاية دينية مغشوشة إضافة إلى تلقيهم تدريبات عسكرية لم تكن لديهم آنذاك أي أهداف سوى مواصلة الرهان على منطقهم الدموي الداعي إلى تغيير الأنظمة الحاكمة وترسيخ نظام إسلامي يستند فقط على الخلافة.

والأخطر من ذلك، أن العمليات التي قادها متطرفو الجزائر لم تكن فردية أو معزولة بل كانت تتم وفق خطط محكمة لإغراق البلاد في الفوضى بعدما مروا لتكوين ما سمي بالجيش الإسلامي للإنقاذ، الجناح العسكري للجبهة الإسلامية، بالتنسيق مع بقايا ما يسمى الحركة الإسلامية المسلحة، وهي الحركة التي تشكلت نواتها بداية الثمانينات من القرن الماضي، وأدى كل ذلك في نهاية المطاف إلى تركيز بيئة قائمة على العنف والإرهاب جعلت من الجزائر تحترق طيلة عشر سنوات.

وغير بعيد عن الجزائر، فإن جارتها تونس التي كانت منذ استقلاها في عام 1956، منيعة عن مخاطر الإرهاب إلا أنها اكتوت بدورها بعد ثورة يناير 2011 من سياسات أدت باسم الحرية إلى إطلاق سراح العشرات من المتطرفين الذين تورطوا في تشكيل خليه متطرفة في 2007 في إطار ما يعرف بحادثة “سليمان” الإرهابية، والتي خطط على إثرها آنذاك عدد من السلفيين إلى إعلان التمرّد على الدولة وتغيير نظام الحكم إلى قائم على الخلافة بعد تكفيرهم النظام الجمهوري.

ولم تقتصر مأساة تونس على ذلك، بل أدى إطلاق سراح هؤلاء المتشددين بعد الثورة إلى انضمامهم إلى أخطر التنظيمات الإرهابية بداية بتنظيم أنصار الشريعة الإرهابي وصولا إلى تنظيم داعش خاصة في ليبيا وسوريا.

والدليل على عدم استعدادهم للاندماج مجددا في المجتمع واحترام تشريعات وقانون الدولة المدنية أن من بينهم من شارك في أفظع العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية التي عرفتها تونس ما بعد الثورة.

وبالنظر إلى كل هذا فإن فرضية إحياء إنسانية المتطرف تبقى بمثابة الأكذوبة التي نحاول تصديقها عبر ما نسمعه أو نقرأه من بيانات لمنظمات حقوق الإنسان التي لم تصل بدورها بعد إلى تقديم مقاربات تساعد العالم على التخلص من إرث الإرهاب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: