قرب نهاية داعش عسكريا لا يقطع جذور خرافة “دولة الخلافة”

شارفت عملية القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية ميدانيا وعسكريا على النهاية، بعدما حقّقت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة انتصارات هامة على التنظيم المتشدد في آخر جيوبه بشرق سوريا، مثلما نجح العراق قبل ذلك في دحر مقاتلي داعش وتحرير الموصل من قبضته، لكن نهاية داعش باتت تفجّر بدورها أزمة جديدة تلقي بظلالها على أمن منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة وأمن العالم بأسره خاصة عندما يتعلق الأمر الآن بمطالبة واشنطن جميع الدول وبما فيها الأوروبية بوجوب إعادة أبنائها من الجهاديين الذين قاتلوا في صفوف التنظيم المتطرف رغم أن كل المؤشرات تشير إلى أن الكثير من المقاتلين وأسرهم لم يفقدوا بعد، رغم إدراكهم هزيمة دولتهم المنشودة، أملهم في تأسيس دولة الخلافة.

أعادت العديد من التطورات الحاصلة في شرق شمال سوريا، والمتمثلة أساسا في اقتراب القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية المحاصر في آخر جيوبه من قبل قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن، الجدل حول العديد من النقاط المتعلّقة بمن تبقى من مقاتلي التنظيم وأسرهم وأطفالهم.

وفتح ملف الجهاديين القابعين في سجون قوات سوريا الديمقراطية أزمة دولية جديدة ومتعدّدة الأبعاد بعدما دعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب حلفائه الأوروبيين بضرورة قبول عودة المقاتلين الذين يحملون جنسيات بلدانهم وهو ما ترفضه جل دول الاتحاد الأوروبي كفرنسا وألمانيا وبريطانيا لعّدة أسباب في مقدّمتها التخوف من جعل سوريا “غوانتنامو جديد” يهدد أمن القارة الأوروبية.

هذا القلق العالمي يفجّر أيضا حزمة من الاستفهامات حول نهاية داعش واختفاء حلم الخلافة، خاصة أن العديد من المقاربات تؤكّد منذ أطلّ التنظيم الإرهابي برأسه في العالم، أنه يمكن القضاء عسكريا على أي تنظيم متطرف لكن لا يمكن قطع جذوره بما أن الكثيرين ممن تبقوا من مقاتلي التنظيم مازالت تراودهم فكرة دولة الخلافة.

ومع وجود العديد من الحالات من مقاتلي التنظيم الذين مازالوا يتبنون فكريا أدبيات تنظيم الدولة رغم إدراكهم أن تنظيمهم المتشدد قد انتهى ميدانيا، فإن كل ذلك يضع أيضا عدة بلدان راهنت من قبل على إمكانية إعادة إدماج المقاتلين في المجتمع من جديد على شاكلة ما طرحته أطراف إسلامية بشأن سنّ ما يعرف بقانون “توبة الإرهابيين” أمام مخاطر حقيقية قد تزيد في تعكير أوضاعها الأمنية لدى عودة الآلاف من الجهاديين من بؤر الاقتتال.

لامبالاة وتشبث بالتطرف

هذه الصورة التي تترجم عدم تخلص من تبقى من مقاتلي داعش من فكرهم الدموي لخّصته أم يوسف التونسية الفرنسية، التي قصدت كما تقدّم نفسها، “أرض الخلافة” لارتداء النقاب بحرية. واليوم، حلمها بـ”الدولة الإسلامية” لم يندثر مع تقلص سيطرة التنظيم المتطرف إلى نصف كيلومتر مربع. ولا تزال ترتدي النقاب، وتؤمن بدولتها ولو “صغيرة”. أما الجنسية الفرنسية قلا تريدها ولا تعترف بها.

في وسط صحراء دير الزور، تنفصل أم يوسف صاحبة الـ21 عاما عن مجموعة نساء متشحات بالسواد كانت خرجت معهن ومع أشخاص آخرين قبل ساعات الجمعة الماضي من الجيب الأخير الواقع تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في بلدة الباغوز في شرق سوريا.

تبتعد أم يوسف عنهن وعن مقاتلين ومقاتلات من قوات سوريا الديمقراطية يُنظمون الوافدين لفرزهم بين نساء ورجال، وبين مدنيين ومشتبه بانتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وتسير وحدها بالقرب من مكان توقف الشاحنات التي أقلّت الوافدين.

بدت أم يوسف وكأنها تبحث عن الصحافيين لتبوح بما عندها. وتقول بثقة “لا يزال هناك 400 متر مربع، لم تنته الدولة حتى الآن”.

وعلى مقربة منها، سيطر التعب بعد رحلة طويلة وإرهاق كبير نتيجة أسابيع تحت الحصار وسط نقص حاد في الغذاء، على النازحين الجدد، وارتفع صراخ وبكاء الأطفال.

أما أم يوسف فبدت مرتاحة وهي تتحدث بطلاقة، تارة باللغة العربية وطورا بالإنكليزية وتقول، “أكثر ما دعاني للهجرة إلى أرض الشام هو رغبتي في ارتداء النقاب، فهذا صعب جداً في فرنسا، وكذلك في تونس، وإن كانت أفضل حالاً”.

العديد من مقاتلي داعش يدركون هزيمة تنظيمهم لكنهم مازالوا يحلمون بدولة الخلافة بالإصرار على تبني أدبيات متطرفة

وتوضح أنها تحمل الجنسية الفرنسية من والدها التونسي الذي عاش عشر سنوات في فرنسا، وأنها أمضت بضع سنوات من طفولتها في كندا مع والدتها قبل العودة إلى تونس والالتحاق بمدرسة فرنسية.

وبدا في أجوبتها الكثير من التحدّي والازدراء للدولتين اللتين تحمل جنسيتيهما. إذ تقول “لا أريد من فرنسا أي شيء، حتى جنسيتي لا أعترف بها”. أما تونس “فلا تطالب بأهلها، الحمد لله”.

ولا يرد اسم هذه الشابة في القوائم الفرنسية الخاصة بأسماء الجهاديين في سوريا. أما في تونس، فهي “معروفة لدى الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية وملاحقة قضائياً”، وفق ما أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية التونسية سفيان الزعق.

تضحك أم يوسف وهي تتكلم، أو تبتسم بسخرية. لا تتردّد في الإجابة عن أي سؤال، تستفيض في الحديث، وإن كانت انتقائية في المعلومات التي تريد الإفصاح عنها.

وتقول إنها عرفت بدعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الدول الأوروبية لاستعادة مواطنيها الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية. وتعلق “أسأل الله ألا يحصل ذلك”. ثم تسأل ساخرة “هل من المنطق أن يعيد أحد داعشياً إلى بلده، أن يعيد مصيبة إلى بلده؟ لا أظن ذلك”.

لكن لعلّ موقفها من فرنسا سببه خشيتها من تسليمها إلى السلطات الفرنسية. إذ تقول “سيوقفون العائدين ويضعونهم في السجون”، مشيرة أيضا إلى تقارير سمعتها مفادها أن “الأولاد يؤخذون” من أهاليهم بعد عودتهم إلى بلادهم.

وأم يوسف والدة لصبي وفتاة أنجبتهما من مقاتل مغربي من تنظيم الدولة الإسلامية تزوجته في سوريا. وقد قتل لاحقاً.

وبينما المعارك في أوجها في شرق سوريا، تزوجت مجدداً قبل شهرين من مقاتل ينحدر من محافظة اللاذقية على الساحل السوري. وتدعي أنها لا تعرف مكانه اليوم.

لا يظهر من خلف نقاب أم يوسف سوى عينيها التي وضعت فوقهما نظارة طبية. تلتفت بين الحين والآخر إلى النساء خلفها، تراقب سير عمليات التفتيش قبل أن تتابع حديثها.

تروي أنها انتقلت في الثاني من أكتوبر 2014، مع والدتها، إلى سوريا عن طريق تركيا بهدف العيش في مناطق سيطرة التنظيم. ولم تكن تعرف أنها ستخرج بعد سنوات قليلة إلى مصير مجهول.

في صحراء دير الزور، تترقب أن تلتقي بعد بضع ساعات بوالدتها وطفليها الذين فروا قبلها بشهر من منطقة سيطرة التنظيم المتطرف.

تؤكد أم يوسف أنها “أجبرت على الخروج” نتيجة الأوضاع الصعبة. ثم تضيف “لا أعرف ما أنا مقبلة عليه، ولا ما هو مصيري، لكن حياتي باتت صعبة”.

وخلال الأسابيع الأخيرة، التقى صحافيو فرانس برس في شرق سوريا عددا من النساء الأجنبيات من أفراد عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بعد خروجهن من جيب الجهاديين، من جنسيات روسية وأوزبكية وكازاخية وتركية وفرنسية وغيرها… أصر بعضهن على أنهن يردن العودة إلى بلادهن، بينما عبّرت أخريات عن الحزن على مصير “الخلافة”، التي أثارت الرعب بأعمالها الوحشية.

السير نحو المجهول

فكر متطرف.. مازال شاهدا على جرائم داعش
فكر متطرف.. مازال شاهدا على جرائم داعش

ويصعب الحديث مع المقاتلين الذكور الخارجين أثناء خضوعهم للتفتيش والفرز على أيدي مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية الذين يعزلونهم عن النساء والأطفال.

وتقول أم يوسف “منذ هجرتي من تونس إلى أرض الشام، رأيت أشياء لم يكن بالإمكان أن أتعلمها في أي بلد ثان، فقط في الدولة الإسلامية”.

ثم تتابع بصوت خافت “لا لست حزينة، جميعكم تعلمون كم كانت مساحة الدولة في السابق، لن أحزن لأنها باتت دولة صغيرة اليوم، لا يهمني ذلك”.

وبخلاف أم يوسف يبدو أيضا أنّ الضربات الموجعة التي تلقاها التنظيم المتطرف في سوريا، لم تنه بعد ما يراود جل المقاتلين من أحلام تركيز الدولة الإسلامية، وخير دليل على ذلك أنّ الأخوين الفرنسيين فابيان وجان كلان وهما من أعلنا بصوتيهما تبني تنظيم الدولة الإسلامية اعتداءات 13 نوفمبر 2015 في فرنسا، رُصدا الأسبوع الماضي في شرق سوريا، وهما يدخلان معا إلى منزل قصفته بعد ذلك طائرة بدون طيار تابعة للتحالف الدولي لمكافحة الجهاديين.

وأكدت مصادر متطابقة مقتل فابيان (41 عاما) في هذه الضربة، بينما ذكرت إذاعة “فرانس إنتر” التي أعلنت النبأ أن جان (38 عاما) أصيب بجروح خطيرة.

وتعتبر الأجهزة الأمنية الفرنسية أن الأخوين كلان ظلا حاملين للفكر الإرهابي لآخر لحظة، وهما من أخطر العناصر على أمن فرنسا ويشغلان وفق، ما أكد جوناثان جيفروا وهو جهادي من تولوز (جنوب غرب فرنسا) عاد من سوريا خلال استجوابه في سبتمبر 2017 أن فابيان كلان يشغل “مركزا مهما في الدولة الإسلامية” و”يعمل في مجال البث الإعلامي”.

ومن مخاطر عودة جهاديين مثل هذين إلى بلدانهم أنهم يحاولون استغلال الأوضاع المتردية في بعض البلدان وتوظيفها خدمة لأجندات التنظيم المتطرف، وعلى سبيل المثال في نهاية دجنبر، بثت إذاعة التنظيم الجهادي رسالة لفابيان كلان بدا، حسب بعض الخبراء، أنه يلمح فيها إلى الأزمة الاجتماعية الناجمة عن تظاهرات “السترات الصفراء” في فرنسا.

وكان هذا المقاتل أثار صدمة في فرنسا عندما أعلن بصوته من سوريا تبني تنظيم الدولة الإسلامية الاعتداءات الثلاثة التي وقعت في باريس وسان دوني في المنطقة الباريسية، ونفذتها ثلاث مجموعات مسلحة تابعة للتنظيم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: