تلوث صحافي و صحافة خضراء
يكاد العالم يختنق من آثار الانبعاثات السامة التي لوثت كل شيء وتنذر بخراب شامل تنزل فيه الطبيعة غضبها على الأبناء العاقين من بني البشر الذين آذوا تلك البيئة النظيفة وذلك النظام الكوني الدقيق.
لكن الصحافة وهي تراقب ما يجري بعين راصدة تجد نفسها هي الأخرى يضربها تلوث شوّه دورها ووظيفتها وشوّه شكلها ومضمونها التقليديين.
أولئك المؤمنون بالصحافة مازالوا يكافحون من أجل أن تبقى وأن يمنحوا جمهور القراء المدمنين على ملمس الورق ورائحته ورائحة الحبر تلك المتعة الخالصة. إنهم حقا أناس مخلصون للمهنة ومدافعون أصيلون عن تقاليد الصحافة.
الصحافة اليوم تلوّثت كثيرا بمدّ هائج صفحات فيسبوكية إخبارية و من أمراض السياسة والمجتمع الزائفة ، بكل الطفح السام من الكراهية والصراعات. الصحيفة هاجسها الحنين لتلك المساحة الصافية المتقدمة على وعي المجتمع والريادية فيه، وهي التي تحمل على صفحاتها وفي جنباتها خيرة العقول المفكرة.
البعض من صحافة اليوم ويا للهول أصاب الكثير منها خَوَر عجيب فتراخت وصارت تابعة، ولم تعد تتقدم الصفوف بل صارت بالكاد تسند طولها وسط طوال القامة الذين يتحكمون بوعي وعقل وذائقة المجتمعات.
الصفحات الملوثة صارت تزاحم تلك الصحافة الصافية وربما وصفها مُجازا بأنها صحافة خضراء صديقة للإنسان وبيئته الاجتماعية. الصفحات الملوّثة تلوّث أيضا عقل الإنسان وبيئته، أرأيتم ذلك النوع من الصراخ الطائفي والشوفيني والشعبوي الذي صار مثل لطخات بشعة على صدر صحافة هذا الزمن، ولكن المفجع هو طابع التعوّد على ذلك الضرب من الصحافة بينما الصحافة التي تمرّدت على الواقع وتجرّدت عن أن تكون طرفا في وظيفة التلوث صارت تواجه إشكاليات وتحديات لا حصر لها.
يستسهل البعض المهمة التي تضطلع بها صحافة تصارع من أجل البقاء، تسد منافذ التلوث وتنأى بنفسها عن تلك الأقلام التي تنفث حبرا ملوّثا سامّا، لكنها لن تلمس عين الرضا من وسط صحافي اعتاد أو قل أدمن على هذا الضرب الجديد من الصحافة.
لا يجد الصحافي الحر عذرا لنفسه وهو يكاد يغرق في ذلك المد الذي يمزج التلوث والسموم بالمصلحة الشخصية والمنفعة الآنية، فكأنه وحيد في وجه الطوفان وعليه أن يدافع بشراسة عن تلك الصحافة الحرة.
الراصدون للمد الشعبوي والشوفيني سوف يدركون مساحة الاغتراب التي تعيشها الصحافة التي تدافع عن قانونها الإنساني والاجتماعي، ذلك العقد الذي تأسست عليه بأن تنزع عن جمهورها أي نوع من أنواع أعراض التلوث النفسي والفكري والعقلي وتاليا تبقى صحافة صحيحة نابضة بالحياة، أقرب إلى الموضوعية والصدق.
المجاز الذي يسمي صحافة بعينها على أنها صحافة خضراء يقود إلى نوع صحافي مختلف يقوده فرسان متجردون من النوازع الأكثر ذاتية. ببساطة شديدة كما أن هناك صحافة صفراء فلتكن هناك صحافة خضراء متجردة من ملوّثات العصر ومحافظة على نقاء المهنة وطقوسها.