المنافقون والعداء لليهود والمسلمين
ثمة حقيقة يتغافل عنها الإعلام الغربي في صدد موجة أقصى اليمين العنصري التي تجتاح الدول الغربية، والتي وصل ممثلوها إلى قمة السلطة في الولايات المتحدة وإيطاليا والنمسا والمجر وبولندا، كما تتوقع استطلاعات الرأي أن تحقق صعوداً جديداً بمناسبة انتخابات البرلمان الأوروبي المزمع إجراؤها بعد ثلاثة أشهر. تلك الحقيقة هي أن دولة إسرائيل التي ينظر إليها أصدقاؤها في الغرب وتنظر هي إلى نفسها وكأنّها دولة غربية بامتياز، أن هذه الدولة كانت سبّاقة إلى ركب موجة اليمين الأقصى.
والحال أن حزب الليكود وصل إلى الحكم في إسرائيل منذ عام 1977، وهو حزب نشأ في عام 1973 عن اندماج جماعات صهيونية يمينية متطرّفة وتزعمّه مناحيم بيغن، مؤسس حزب حيروت، أكبر مكوّنات الحزب الجديد وأهم فصائل أقصى اليمين الصهيوني منذ تأسيسه في عام 1948 حتى اندماجه في الليكود. وللتدليل على مدى يمينية زعيم الليكود التاريخي يكفي أن دافيد بن غوريون نفسه، مؤسس الدولة الصهيونية، شبّهه بأدولف هيتلر، وقد جرت العادة في أوساط حزب العمّال الصهيوني الذي تزعّمه بن غوريون على نعت جماعة بيغن بالفاشيين.
وإذ خرج الليكود من الحكم في عام 1992، عاد إلى السلطة بقيادة بنيامين نتنياهو في عام 1996، لكنّه ما لبث أن فقدها من جديد بعد ثلاث سنوات. تبع ذلك منزلقٌ يميني جديد للمجتمع الإسرائيلي أدّى إلى إعادة الليكود إلى الحكم في عام 2001 بقيادة رمز التطرّف الصهيوني آنذاك، ألا وهو مجرم الحرب آرييل شارون. وقد أدرك نتنياهو، الانتهازي حتى النخاع، سرّ فوز الانتخابات في مجتمع إسرائيلي لا يني يشطح نحو اليمين، فشنّ حملة محمومة من المزايدة اليمينية على شارون وعاد إلى زعامة الليكود ومن ثم إلى ترؤس الحكومة الصهيونية في عام 2006. ومنذ ذلك الحين، فاز نتنياهو بجولة انتخابية بعد أخرى وهو مستمرّ في السير يميناً بخطى حثيثة، مستوعباً في ائتلافه شتى الجماعات العنصرية المتطرّفة التي بات المجتمع الصهيوني يفرزها باستمرار.
فكان من الطبيعي جداً أن ينظر نتنياهو بسرور عظيم إلى صعود أقصى اليمين في الغرب، إذ أنه صعودٌ لجماعات تشاركه منطقه السياسي. ولم يؤثر قط في هذا السرور كون «معاداة السامية»، بمعنى العداء العنصري لليهود، مستشرية في أوساط أقصى اليمين الغربي، تشكّل مكوّناً تاريخياً رئيسياً من مكوّنات أيديولوجيته. بل العكس هو الصحيح إذ أن الصهيونية تضافرت تاريخياً مع معاداة السامية حيث يدعو الطرفان إلى خروج اليهود من المجتمعات التي يشكّلون أقلية فيها ليتجمّعوا في دولة خاصة بهم، مبنية على مبدأ عنصري/ديني بوصفها «دولة قومية لليهود» كما أصرّ نوّاب اليمين الصهيوني على تسميتها قانونياً في الكنيست في الصيف الماضي.
دولة إسرائيل التي ينظر إليها أصدقاؤها في الغرب وتنظر هي إلى نفسها وكأنّها دولة غربية بامتياز، هذه الدولة كانت سبّاقة إلى ركب موجة اليمين الأقصى
وقد تجلّى التضافر المذكور عبر التاريخ منذ مخاطبة مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل، للمعادين للسامية كي يؤيّدوا مشروعه، وتجلّى من ثمّ بتعاون الحركة الصهيونية مع السلطة النازية على نقل اليهود من ألمانيا إلى فلسطين، وبعد ذلك أيضاً بحصول تأسيس الدولة الصهيونية على دعم رجلين معروفين بكرههما لليهود هما الرئيس الأمريكي هاري ترومان والزعيم السوفييتي ستالين، وباعتماد تلك الدولة لاحقاً على الدعم المالي والتسليح اللذين وفّرتهما لها ألمانيا الاتحادية عندما كان النازيون القدامى يشكّلون جزءًا أساسياً من جهازها الحاكم، وهلمّ جرّا.
فإن صداقة نتنياهو الحميمة مع أقطاب موجة أقصى اليمين الراهنة بالرغم من أن أوساطهم ملأى بالعنصريين المعادين لليهود أمثال رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان، إنما تندرج في تاريخ طويل. بيد أن تلك الصداقة دعّمها إلى حدّ بعيد صنفٌ من التضافر كان هامشياً حتى تاريخ حديث وغدا مركزياً في السنوات الأخيرة، ألا وهو توفير اليمين الصهيوني لليمين الغربي سلاحاً أيديولوجياً يتمثّل في اتهام اليسار بمعاداة السامية بسبب مناهضته للصهيونية وتأييده لقضية الشعب الفلسطيني.
فإن تلك الحيلة التي أكل الدهر عليها وشرب باتت مع نتنياهو إحدى أبرز التهم في جعبة اليمين العالمي بكافة تلاوينه، من يمين اليسار أمثال أنصار توني بلير الذين استقالوا من حزب العمّال البريطاني متّهمين قيادته اليسارية بمعاداة السامية، إلى يمين اليمين مثل زعيمة أقصى اليمين الفرنسي مارين لوبين التي ندّدت مؤخّراً باعتداء من أسمتهم «اليسار المعادي للسامية» على الفيلسوف الصهيوني العنصري ألان فنكلكروت، مروراً بيمين الوسط أمثال قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي الذين شنّوا حملة مسعورة ضد النائبتين اليساريتين رشيدة طليب وإلهان عمر باستخدام الحيلة ذاتها. وفي هذه الحالة الأخيرة تنجلي بصورة تامة نقطة تضافر أخرى بين الدولة الصهيونية واليمين العالمي، هي رُهاب الإسلام («إسلاموفوبيا»)، والحال أن كره الإسلام أصبح هو وجه العنصرية الرئيسي في الغرب منذ الربع الأخير من القرن المنصرم.
ولتكتمل الصورة لا بدّ من أن نضيف إليها رديفاً مسلماً لتضافر الصهيونية مع معادي السامية يتمثّل بالحكّام العرب المسلمين الذين يتعاونون مع أبرز كارهي الإسلام والعرب أمثال دونالد ترامب وأعوانه أو بنيامين نتنياهو نفسه. وقد كانت فرصة لقائهم الأخيرة ذلك المؤتمر الفاشل الذي نظّمته الإدارة الأمريكية في وارسو، في قلب أوروبا الشرقية حيث يبلغ كره اليهود وكره المسلمين أوجّهما. وبينما يشكّل العداء لليسار في عصرنا ركن التضافر بين الصهيونية وكارهي اليهود، تشكّل مناهضة إيران ركن التعاون بين الحكّام العرب أولئك وكارهي الإسلام، وجميعهم في الدرك الأسفل من النفاق.