بوتفليقة أو الطوفان
يشكّل الإعلان عن ترشيح الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة استخفافا بكل الأعراف السياسية والأخلاقية ومسرحية انتخابية هزلية قد تؤدي إلى هزيمة البلد ككل وليس ضربة للمرشحين الآخرين فقط، لأن بوتفليقة سينصّبُ على إثرها رئيسا رغم أنف الجزائريين كما حدث في المرات السابقة والسابقة عليها مع الرؤساء الآخرين. وقد ينجم عن هذا الاستفزاز والتهوّر، علاوة على الأزمة الاقتصادية التي تخنق البلد، مخاطر اجتماعية وانفلات أمني محتمل. فكيف تدهورت الأمور ووصلت الجزائر إلى هذا الحدّ من التسيب؟
في دعاباتهم ونكتهم السوداء يقول الشباب في الجزائر إنه لا يوجد سوى مخرج واحد هو المطار، ويقصدون الهجرة خارج الجزائر قبل حلول الكارثة وانهيار الدولة ودخول البلد في مرحلة آتية لا ريب فيها هي مرحلة “حرب الجميع ضد الجميع”.
ويرى كثيرون مقدمات ذلك في تلك النزاعات الدائرة خاصة مع عهدات بوتفليقة المتتالية من أجل افتكاك مصالح ومنافع ومناصب من دولة الريع. وقد حققت فئات كثيرة من الجزائريين باقترابها وتواطؤها مع السلطة القائمة مكاسب معتبرة، وفعلا تكوّنت في الجزائر ولأول مرة مجموعات مصالح قوية مرتبطة عضوياً بدواليب الحكم، سيطرت على قطاعات اقتصادية وخدماتية مربحة سلفا، بسبب التسهيلات والإعفاءات الضريبية التي يستفيد منها أهل السلطة وعائلاتهم وشركائهم. وهكذا تم زواج مصلحة بين بارونات الإدارة والسياسة وبارونات الاستيراد والمال الفاسد. ولم تعد اللعبة في الجزائر لعبة سياسية يعرف الناس مسبقا قوانينها، بل أصبح الأمر إلى الصراع على البقاء أقرب، إذ تقتضي مصالح العرسان الجدد البقاء في الحكم مهما كان الثمن لأنه المصدر الوحيد لثرائهم وجاههم. وهو ما نراه ماثلا اليوم أمام أعيننا، إذ كيف يمكن الحديث عن انتقال سلس للسلطة في بلد مريض في اقتصاده وماليته ومدرسته وأمنه وأخلاقه، ويراد له أن يُحكمَ من قبل رجل مريض مقعد؟ إنها مغامرة حقيقية يريد عرّابوها أن يحكموا الشعب الجزائري بالوكالة وبالقوة.
ولذلك فمن السذاجة أن تأمل المعارضة إمكانية إصلاح سياسي ما، أو تداولا على السلطة يأتي بطرق جديدة بعيدا عن الشرعية الثورية أو الدينية. فهل يتنازل الذين اغتنوا ويغتنون من الريع عن امتيازاتهم، ويسلّمون مفاتيح الخزائن لغيرهم ويتركون لهم البلد بدعوى إصلاح النظام السياسي وانتهاج الشفافية أو الديمقراطية؟ وهل يمكن فك الارتباط بين المنظومة السياسية والمنظومة المالية المتشابكة مصالحهما ومصائرهما بطريقة ديمقراطية سلمية؟
الجزائر سائرة في مسلكين لا ثالث لهما: إمّا استمرار هذا النظام لعقود أخرى متكيفاً مع الظروف المستجدة، كما فعل منذ استقلال الجزائر في العام 1962، وإمّا لجوء أغلبية الشعب الجزائري في لحظة ما إلى العنف للإطاحة به
لا يوجد جزائري واحد عاقل يفكر ولو لحظة واحدة في سيناريو من هذا القبيل، لأنه يعرف أن السلطة في بلده تسلّحت بالمال وأن المال تسلح بالسلطة، وأصبحا غولا واحدا يتحكم في رقاب الجزائريين ولا يمكن التخلّص منه بتظاهرة حتى وإن كانت عارمة وقطع طريق هنا أو تجمع معارضة هناك. لقد عرف النظام كيف يجدّد نفسه ويمدّد عمره بتحالفه مع القوى الأكثر جشعا وتخلّفا ووصولية. تلك القوى المستعدة لارتكاب كل الحماقات من أجل الحفاظ على مركزها وفي بعض الأحيان على بعض الفتات. وقد فوّض النظام بعضها للقيام بمهمة قذرة هي نشر “العبودية الطوعية”، وظهر جيل جديد مبرمج من أجل الدفاع عن إنجازات بوتفليقة الوهمية ومحاولة إخفاء فشله الشامل.
وقد أنجبت عهدات بوتفليقة الفاشلة على كل المستويات مجموعات مصالح غير مستعدة للتنازل عن امتيازاتها، بل هي مستعدة لارتكاب حماقات لا تخطر على بال أحد، من أجل الدفاع عن تلك الامتيازات.
وهكذا لا يمرّ يوم إلا وزاد في تعميق الأزمة الشاملة التي تتخبّط فيها الجزائر منذ استقلالها، وبات الجزائريون متأكدين أن اليوم الذي مضى أحسن من الذي يليه والآتي أسوأ، والأخطر أنهم باتوا في أغلبهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الانسداد الشامل والمزمن الذي يعيشه بلدهم لا يمكن تجاوزه بالطرق السلمية.
وانطلاقا من كل هذا، يمكن القول إنّ الجزائر سائرة في مسلكين لا ثالث لهما: إمّا استمرار هذا النظام لعقود أخرى متكيفاً مع الظروف المستجدة، كما فعل منذ استقلال الجزائر في العام 1962، وإمّا لجوء أغلبية الشعب الجزائري في لحظة ما إلى العنف للإطاحة به واستبداله بفضلاته من الإسلاميين وشبه الإسلاميين.