“المجهول الجزائري” الذي أصبح قريبا
الحديث عن المجهول في الجزائر هذه الأيام أكثر من المعلوم، ذلك أنه على غرابة المشهد السياسي لدولة مرضت بمرض رئيسها، فأثّر هذا بشكل واضح على المواقف وعلى أساليب قيادة الدولة، تُحاول جاهدة فكّ طلاسم الفعل السياسي في زمن تحكمه قوانين ومؤسسات على مستوى دول العالم، يأتي رد فعل السلطات- خاصة القضائية- مُحمَّلاً بتطويع للقانون وللعدالة لصالح صانع القرار السياسي على النحو الذي رأيناه في محاكمة، كل من الشباب المدونين ومُغَنِّيي الرَّاب، ومُحرِّكِي مواقع التواصل الاجتماعي، ومع هذا كله، بل وانتظارا حتميا للأسوأ على الصعيد السياسي في انتخابات مُلغمة، هي بنت شرعية للتيه الفكري وللضياع الوطني وللعجز الواضح للمعارضة، ولتعفن سلطة تراكمت شهوات أصحابها حتى غدت مرضا يسري في جسم الدولة والمجتمع، فإن هناك مفاجآت مُتوّقع حدوثها قريبا، حسب نظر الكثير من المراقبين، ومنها ما هو تعويل غير مبرر على القدر، ومنها ما هو نتيجة حتمية للتغيير قد تكون مصحوبة بعنف يصعب تحمل نتائجه على الصعيدين المحلي والإقليمي.
الجزائر إذن، ومهما بدت اليوم مُتأَّلمة من وضعها المتأزم، بل وذاهبة نحو كارثة حقيقية تتعلق بنظام الحكم، فإنها بحمولة ماضيها التاريخي تصنع مستقبلها، ما يعني أنها اليوم على مشارف تغيير أصبح وشيكا، قد تكون تبعاته مدمرة ومكلفة على جميع الصعد، ولكنه سيتحقق لا محالة، فمرحلة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة انتهت حتى لو بقي حيا في قادم الأيام وفاز في الانتخابات، وهذا شبه مؤكد، ذلك أن ما يُقدم عليه عناصر الحكم هو كيد سياسيين باتوا في نظر عامة الشعب عصابة لن تفلح أبداً، رغم أن ما يحدث اليوم في الجزائر، يُشير بعض من شواهده إلى حالات كبرى للصراع لها أسسها التاريخية، أصبح من الضروري الحسم فيها وإلا ستؤدي إلى انهيار كامل للدولة، نذكر هنا ثلاثاً منها على سبيل المثال:
أولا، حالة “ذات طابع ديني تصوري وعملي”، حيث مقتضيات الفهم القائم اليوم توظف الدين لصالح الفعل السياسي من السلطة ومن المعارضة، ومن المؤسسات الخيرية، وفي كل هذا يشكل المسجد قطب الرحى، والدين في اللحظة الراهنة، عبر المسجد، ملاذا آمنا للمؤسسات الرسمية عبر وزارة الشؤون الدينية، واستنجادا للمعارضة من خلال دور الزوايا، وانطلاقا لجماعات الإسلام السياسي، السلمية والعنفية والإرهابية، وهذا يعني أن الإسلام الشعبي للجزائريين هو الجامع، بل والمعارض للإسلام الرسمي والسياسي، لهذا يُتوقع قيام ثورة جديدة لاستعادة الإسلام من الجماعات السياسية، بما فيها المؤسسات الرسمية، خاصة وأن التوصيف الحالي للجزائر، هي، ورغم مظاهر المدنية والحداثة التي تتميز بها، أقرب لدولة دينية، منها إلى دولة مدنية، على الرغم من أن سلوك قادتها يبدو ظاهرياّ، مُعبرا عن عصرنة ذات طابع “عالم ثالثي”.
ثانيا، حالة “التعبئة العامة لمحاربة أطراف داخلية وخارجية تريد جعل الجزائر رهينة لمصالحها الضيقة”، كما جاء في كلمة نائب وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أحمد قايد صالح خلال زيارته إلى الناحية العسكرية الخامسة في الأيام الماضية، ما يعني وجود شعور بمخاطر حقيقية هي حكر لجهة الفهم على المؤسسة العسكرية، وقد يكون هذا نوعاً من الوهم، وعلى اعتبار أنه حقيقة، أليست شروط التعبئة تتطلب معرفة العدو، ثم من هم أعداء الداخل، ومن هم أعداء الخارج؟ وأنَّى لنا معرفتهما أو التمييز بينهما؟
لا يقدم الفريق قايد صالح إجابة قاطعة ودالة، ولكنه يضع الجزائريين جميعهم في حيرة من أمرهم، بقوله “أؤكد هنا على عبارة أعداء الداخل والخارج، الذين يريدون أن يجعلوا من الجزائر وشعبها، الذي لا يزال وسيبقى، يعتبر روح نوفمبر بمثابة المصدر الملهم فكرا وعقيدة، رهينة لمصالحهم الضيقة وطموحاتهم الزائفة”. هنا يزيدنا غموضا ويتركنا جميعا فريسة للشك والريبة، فتلك الصيغة المبهمة للتعبير عن أعداء وهميين أو حقيقيين، غير معلومين لدى الجزائريين، هي عبارة عن خطاب استهلاكي ينطلق من منجز ثوري تحقق منذ ستة عقود تقريبا، لم يعد مؤثرا في الأجيال الجديدة.
ومع أن غالبية الجزائريين تؤمن بالدور الفاعل للجيش في حماية الدولة، لكنها أيضا في الوقت الحالي تحمله مسؤولية الرداءة السياسية لدعمه أو تغاضيه عن ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة، مع عجزه المرضي وشغور منصب الرئاسة منذ بداية العهدة الرابعة، لهذا يتساءل كثير من الجزائريين عن التطبيقات العملية لقول الفريق قايد صالح “الجزائر في حاجة أكيدة إلى نوعية من الرجال الذين كانوا، وسيبقون يعتبرون الثورة التحريرية المجيدة حضنا مباركا لقيم نبيلة، ويعتبرون أن من آمـن بها وتشبع بمبادئها، يستطيع دون شك تكريس كل جهوده، بل وحياته في خدمة الجزائر”.
ثالثا، حالة “المراجعات العميقة”، وهي تخصُّ مناهج عمل وأفكار قوى المعارضة الراغبة في تغيير النظام القائم، كما ذهب إلى ذلك سعيد سعدي، رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية السابق، في مقال له نشره على فيسبوك الخميس 14 فبراير الجاري، وحمل عنوان “تحدي الحقيقة”، ذكر فيه ما يلي “الآن بعد الإهانات التي تعرضنا لها، والتي قليل من الشعوب من يقبل بتحملها -أي العهدة الخامسة- وبعد ذوبان مواد التجميل التي غطينا بها تفاهاتنا، وبعد أن أصبح الفخر المختلط بالعنصرية الذي نقابل به إخواننا من جنوب الصحراء ممنوعا علينا، علينا أن ننظر إلى أنفسنا قبل مواجهة نظرات أولادنا، أي نظرات اللوم والاحتقار”، ولا يكتفي سعدي بتشخيص المشكلة بل يسعى لتقديم حل نظري، يتضمنه قوله التالي “لا خيار لدينا سوى إعادة التفكير في قيم جديدة، وميكانيزمات عملياتية بعيدا عن المفردات السياسية للنظام.. المعركة ستكون قاسية، وهذا لا يعني أنها ستكون بطرق غير عادلة إذا أعددنا لها بوضوح ومنهجية”.
سعيد سعدي يلتقي مع الفريق قايد صالح في مسألة التأصيل للفعل السياسي الجزائري الراهن انطلاقاً من ثورة التاريخ، ما يعني استحضار التاريخ، وإن كان يختلف معه في أفق التغيير، وكيفية الخروج من الأزمة الحالية، وقد اتَّهم سعدي الرئيس بوتفليقة بالسطو على مقترحات المعارضة، بقوله “لتبرير ترشح مهين له وللأمة، لم يجد شيئا سوى الانخراط في فكرة إطلاق إصلاحات اقترحتها المعارضة الديمقراطية التي حاربها خلال عشرين سنة من الحكم، والتي سيدفع ثمنها جيلان أو ثلاثة أجيال على الأقل”، كما شبه وضع الجزائر بفنزويلا التي يمسك فيها رئيسها بالحكم ضد رغبة شعبه ليضع بلاده تحت الوصاية، معتبرا أن كثرة الترشيحات بيان على “حالة التفكك السياسي الجزائري”.
القراءة التي قدمها سعيد سعدي للحالة الجزائرية عبر مراجعات يراها ضرورية، تبدو مخيفة لجهة الصراع داخل الجزائر، انطلاقاً من سؤاله، غير العفوي، هل تعتبر مصادفة أن يقف التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية على نفس المسافة من الانتخابات الرئاسية، أي إعلان مقاطعة هذه الانتخابات؟ بالطبع ليس مصادفة، وقد تعني المقاطعة غياب قوى مناطقية وثقافية فاعلة، وهذه يهدد الوحدة الوطنية والاجتماعية، ويُحوِّل التنوع الثقافي واللغوي إلى مدخل للتصادم وقد يُعزز من ظهور تراكمات متعلقة بحقوق كثيرة، ستعجل بالتغيير، الذي أصبح قريباً.