قلق فرنسي من الدواعش العائدين
يساور القلق الحكومة الفرنسية هذه الأيام بشأن موضوع الدواعش الفرنسيين الموجودين في سوريا والعراق، والذين يقدر عددهم بالمئات ممن قصدوا المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش بداية من العام 2014 وإلى حين هزيمته النهائية على يد التحالف الدولي وسقوط معاقله الرئيسية في الرقة والموصل خلال العامين الماضيين.
ففي فبراير من العام الماضي قام وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، بزيارة لبغداد لبحث قضية الفرنسيين المجندين في تنظيم داعش مع الحكومة العراقية، وصرح من هناك بأن المقاتلين الذين لديهم الهوية الفرنسية يمكن للنظام العراقي محاكمتهم وفق القوانين المحلية. لكن موقف الوزير الفرنسي أثار انتقادات واسعة داخل فرنسا، لأن القانون العراقي ينص على الإعدام في الجرائم الإرهابية، فيما يعدّ الإعدام داخل فرنسا خطا أحمر ومسا بحقوق الإنسان.
لكن الجديد في النقاش الفرنسي حول الدواعش مرتبط بالموقف الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في منتصف ديسمبر الماضي حول عزمه سحب القوات الأميركية المتواجدة في سوريا، حيث أدى ذلك إلى تجدد المواجهة بين الرافضين والموافقين على ترحيل الدواعش الفرنسيين لمحاكمتهم أمام القضاء المحلي.
فمنذ تصريحات ترامب حصل تحول في موقف باريس إزاء ملف المجندين الفرنسيين السابقين في التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا. ذلك أن واشنطن ولندن وباريس، البلدان الأعضاء في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، هي التي تتولى اليوم الإشراف على المراكز التي تؤوي هؤلاء المجندين في المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” داخل سوريا، التي تتشكل في غالبيتها من الأكراد، ومن شأن الانسحاب الأميركي أن يجعل مصير هؤلاء المقاتلين السابقين بين أيدي هذه القوات، علاوة على أن هذه الأخيرة غير معترف بها دوليا وأي محاكمة لهؤلاء الفرنسيين طبقا للقوانين المطبقة في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد لن يكون لها طابع “شرعي” بحسب الحكومة الفرنسية.
وخلال الأسبوع الماضي دافع وزير الداخلية الفرنسي كريستوفر كاسانر عن ترحيل المقاتلين الفرنسيين إلى بلادهم، مبررا ذلك بالقول بأنهم “فرنسيون أولا قبل أن يكونوا جهاديين”، وقال إن هؤلاء العائدين سيتم إيداعهم السجن المؤقت فور دخولهم التراب الفرنسي، على أن يتم تقديمهم للمحاكمة بعد ذلك. نفس الموقف تبناه الناطق باسم “وزارة أوروبا والشؤون الخارجية”، حيث أشار إلى أنه في ظل سحب القوات الأميركية من سوريا وحالة الفوضى المنتشرة في البلاد وغياب الاستقرار فإن “الحكومة الفرنسية تخشى من فقدان أثر هؤلاء الجهاديين”، لذا تفضل ترحيلهم إلى فرنسا من أجل محاكمتهم، باعتبار أنهم لا يزالون يشكلون خطرا على الأمن الداخلي الفرنسي.
ومنذ سقوط الرقة والقضاء على تنظيم داعش فيها، في أكتوبر 2017، وقع العديد من المقاتلين الأجانب في صفوف التنظيم، بينهم عشرات الفرنسيين، بأيدي مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية”، أو بأيدي قوات النظام السوري. وتقدر الحكومة الفرنسية عدد هؤلاء بنحو 131 شخصا ما بين العراق وسوريا.
وفي حال ترحيل هؤلاء إلى فرنسا سيضافون إلى 323 آخرين كانوا قد عادوا في أوقات سابقة وتم احتجازهم ومحاكمتهم، وهو ما سوف ينعكس على النقاش السياسي في البلاد ويحول القضية إلى قضية رأي عام، خصوصا في ظل التحذيرات المستمرة من تنامي المخاطر الإرهابية وبقايا رواسب الأعمال الإرهابية التي شهدتها البلاد واستهدفت باريس ونيس في الأعوام الثلاثة الماضية مخلفة مئات القتلى والجرحى.
ولا تقف قضية الدواعش العائدين عند المحاكمة والاعتقال، بقدر ما ترتبط بتداعياتها على المستقبل. فبين هؤلاء العائدين أو المرشحين للعودة يوجد العشرات من القاصرين، يقدر عدد الموجودين داخل فرنسا اليوم بثمانية وستين قاصرا، بينما يقدر عدد الذين لا يزالون في العراق وسوريا بنحو 500 عنصر.
ويطرح هؤلاء القاصرون مشكلة كبرى بالنسبة للحكومة الفرنسية، لأن جل هؤلاء عاشوا تجارب صعبة في المناطق التي ولدوا أو ترعرعوا فيها، وبعضهم رأى أعمال قتل وحشية، أو عاش على رؤية الأسلحة داخل البيت لأعوام، أو حصلت له ألفة مع مشاهد رجال يحملون أسلحة في الشارع، ومثل هذه الحالات تستدعي المتابعة النفسية المستمرة من أجل العلاج لفترات طويلة، وتشكل خطورة على مستقبل هؤلاء الأطفال.
لكن القضية الأكبر بالنسبة للفرنسيين هي مرحلة ما بعد الاعتقال وقضاء مدة السجن بالنسبة للجهاديين العائدين من ساحات القتال، كيف يتم التعامل معهم مستقبلا؟ وما هي الضمانات على أنهم لن يعودوا إلى الإرهاب والعنف؟ وما هي احتمالات نجاح اندماجهم في المجتمع؟
أسئلة دفعها إلى الواجهة وجود حوالي عشرين معتقلا في السجون الفرنسية ممن كانوا في سوريا والعراق وانتهت مدة سجنهم وسيخرجون إلى الشارع في بحر الشهور القادمة، مما يطرح على الحكومة الفرنسية معضلة مزدوجة في مواجهة “أزمة العائدين”، خصوصا وأن هؤلاء لديهم تجربة في حمل السلاح وفي حروب العصابات وأعمال القتل.