مستقبل قصر المرادية بين المؤسسة السيادية والمصحة العقلية
بمجرد الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية، تحول مبنى وزارة الداخلية الجزائرية إلى مسرح كوميدي مفتوح. حيث تهافت العشرات من المعتوهين نفسيا وعقليا على المصالح المختصة لسحب استمارات الاكتتاب، على أمل دخول سباق الاستحقاق الرئاسي، في سابقة أولى في تاريخ البلاد السياسي، تمهد لتحويل قصر الرئاسة إلى مصحة.
أحد الموالين، وهو مرب للمواشي في محافظة داخلية، اختصر مشهد الانتخابات الرئاسية الحالي، برسالة قوية للرأي العام، حين ضمّن تسجيل له على شبكة الإنترنت احتجاجه على الأوضاع المهنية والاجتماعية التي يتخبط فيها الموالون، فهدد بالقول “ماذا تريدون مني.. أنزع طاقيتي وأترشح للانتخابات الرئاسية؟”، مما يوحي أن انطباعا شعبيا تبلور لدى الشارع الجزائري، بأن رئاسة الجزائر صارت مهنة من لا مهنة له، أو أنها مركز للنقاهة المرضية.
استحقاق خارج المعقول
صدم الجزائريون لنماذج ظهرت فجأة في وسائل الإعلام، تعبر عن رغبتها في خوض سباق الانتخابات الرئاسية المقررة في الـ18 من إبريل القادم، غير آبهة بالنكسة التي خلفتها لدى الرأي العام، فأكثر المتفائلين بالمستقبل السياسي للبلاد، فقد أمله في أن يكون الاستحقاق الرئاسي القادم محطة للتحول أو التغيير في راهن ومستقبل الجزائر.
تاريخ الجزائر السياسي لم يشهد منذ الحصول على الاستقلال في 1962 مثل هذا الانزلاق نحو الحضيض، ولا يحتفظ الجزائريون المخضرمون بين حقبة الحزب الواحد، أو حقبة التعددية الحزبية من تسعينات القرن الماضي إلى غاية العام الماضي، بأي ذكرى مماثلة لهذا السيناريو الذي يعيشونه اليوم
وكانت المفاجأة كبيرة لدى الرأي العام، من الأسماء المغمورة التي تكشف عنها وزارة الداخلية دوريا، في إطار عملية متابعة حراك الترشح للانتخابات الرئاسية، ولم يعد القدوم من ربوع البلاد أو من ظل العزلة الجغرافية والسياسية عائقا أمام العشرات من الطامحين لشغل قصر المرادية، ففيهم بائع الخضار والبطال والمتقاعد وعاملة النظافة وغيرهم.
وبقدر بهلوانية المشهد والأجواء المرحة التي تحيط بمبنى وزارة الداخلية، في قصر الدكتور سعدان بالعاصمة، بات المتابعون يتشوقون لحلقات المسلسل، ليس لاكتشاف أفكار أو برامج جديدة تقترح لحلحلة الأزمة المتشابكة في البلاد، بل لمتابعة مشهد كوميدي جديد من مسرحية الانتخابات الرئاسية للعام 2019، علهم يروحون عن أنفسهم من عناء يومياتهم المتعبة.
هناك من لا يستغرب مثل هذا المنتوج السياسي، ويعتبره نتيجة طبيعية لبيئة صممت بإتقان خلال العشريتين الأخيرتين، لما ذابت القوى السياسية والشخصيات المستقلة في وعاء الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وتم ضبط جميع الساعات على عقارب الرجل، الذي تحول في مخيال هؤلاء من رئيس للبلاد يمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب، إلى هدية إلهية للبلاد والعباد تنزل الأمطار ويرتفع سعر النفط له.
ومن مختلف ربوع البلاد قدم العشرات من الأشخاص المغمورين، حاملين معهم حلم المرادية موضبا في ثوب أبطال مسرحية مليودرامية، تضحك المتابعين لحد البكاء، فالاستخفاف بأكبر الاستحقاقات السياسية في البلاد بلغ درجة مؤلمة ومبكية على الانحدار الذي بلغته الجزائر، فهؤلاء لم يتجرؤوا في السابق على دخول انتخابات بلدية أو تشريعية وربما حتى لجمعية الحي، فكيف بهم يتسابقون على الانتخابات الرئاسية، لو لم يكن هناك محرض للقضاء على آخر أمل في التغيير؟
لم يتورع هؤلاء الذين تجهلهم أكبر المحركات العالمية في شبكة الإنترنت، ولا يعرفهم حتى أبناء بلدتهم، في طرح طرائفهم للرأي العام عبر ترسانة من الكاميرات تنتظرهم أمام مبنى وزارة الداخلية، فمنهم من جاء لأجل تأشيرة سفر دائمة، ومنهم من يرغب في تناول اللحم، وآخر يطمح لسكن، والبعض أمرته إرادة السماء، وأما التحصيل العلمي والأكاديمي أو المسار السياسي والنضالي فحدث ولا حرج.
عمارة بن يونس الزعيم السياسي الموالي للسلطة يقول إن “الجزائر في حاجة لرئيس يفكّر وليس لرئيس يسير على رجليه”، أما أنصار ضلع السلطة الآخر “تجمع أمل الجزائر”، فقد أنشدوا مديح “طلع البدر علينا” لعمار غول ذات يوم. كما لم يتوان أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم جمال ولد عباس في وصف بوتفليقة بـ”مبعوث السماء للجزائر”
وأثبتت المعاينة أن أعلى مؤسسة سيادية تدار منها شؤون البلاد، وهي غرفة العمليات الأولى التي تنطلق منها أهم القرارات، يراد لها أن تتحول، برأي الذين يدفعون بهؤلاء المساكين إلى هذه الوضعية، إلى منتجع يتكفل بعلاج المعتوهين والمصابين بتشوهات نفسية وعقلية.
وإذا كان البعض ممن في السلطة ومن الفاعلين في المشهد الإعلامي يريدون إقناع الشارع الجزائري بتوخي الحذر مما يحوم من أخطار حول قصر المرادية، إذا تم التفريط في بوتفليقة، حتى ولو هو على كرسي متحرك، من خلال التسويق لأشكال بشرية مكانها الحقيقي في المصحات العقلية، فإنهم يلحقون ضررا كبيرا بالرجل، لأنهم يقدمونه في سباق ومقارنة غير مشرفة تماما، قياسا برصيده ومساره مهما قيل عنه ومهما انتقد فيه.
والرجل الذي مارس السلطة وهو في ريعان الشباب، وعايش مختلف الحقب والدوائر الدبلوماسية إقليميا ودوليا، لا يمكن أن يتنازل أو يرضى لنفسه ولشخصيته النرجسية أن يكون منافسا أو بديلا حتميا لأمثال خالتي عزيزة، سعيد العمامرة، أحمد بوعناني.. والكثير من أمثالهم.
معتوهون وأصنام
ثقافة “الأصنام” ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى سنوات سابقة، حيث سبق للزعيم السياسي الموالي للسلطة عمارة بن يونس أن رد على سؤال صحافي، بأن “الجزائر في حاجة لرئيس يفكّر وليس لرئيس يسير على رجليه”، وسبق وأن أدى أنصار ضلع السلطة الآخر “تجمع أمل الجزائر” مديح “طلع البدر علينا” لعمار غول. كما لم يتوان أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم جمال ولد عباس في وصف بوتفليقة بـ”مبعوث السماء للجزائر”.
ومثل هذا الخطاب هو الذي أسس للممارسات التي طفت إلى السطح مؤخرا، وحوّل الاستحقاق الرئاسي إلى مهزلة غير مسبوقة، ولو أن فرضية الأسلوب الشعبي الجديد في الانتقام من كل ما يرمز للسلطة والمؤسسات غير مستبعدة، في ظل رغبة السلطة في التجديد لمرشحها بكل الوسائل، ولأن المقاومة لم تعد متاحة، فإن هؤلاء يكون قد فكروا بهذه الطريقة للانتقاص من سمعة أكبر الاستحقاقات السياسية في البلاد.
وهو ما تختزله الصور المسوقة من مبنى وزارة الداخلية، حيث أظهر هؤلاء انبهارا بالأضواء المحيطة بالعملية وبالاستقبال المحترم من طرف الموظفين، ومنهم من استقدم أفراد العائلة، وأخذ صورا تذكارية تبقى في أرشيفها، لأنهم يدركون أن المناسبة لن تتكرر، والسقوط حتمي في امتحان جمع توقيعات الاكتتاب، وهو ما دفع ببعضهم إلى بيع الاستمارات كمادة ورقية بنصف دولار للكيلوغرام الواحد.
لولا تقاليد البلاد في المواعيد الانتخابية، وجدية عدد من المرشحين الحزبيين أو المستقلين، فإن تضارب القراءات والتفاسير لظاهرة موجة المعتوهين التي اجتاحت الاستحقاق الرئاسي، يجعل من إلغاء هذا الموعد ضرورة ومطلبا عريضا، لأن الغيورين على البلاد لن يسمحوا لتلك النماذج بأن تواصل مسيرة الإساءة لأكبر الاستحقاقات السياسية.
المفاجأة كبيرة لدى الرأي العام، تجسدها الأسماء المغمورة التي أعلنت الترشح للانتخابات الرئاسية، فلم يعد القدوم من ربوع البلاد أو من ظل العزلة الجغرافية والسياسية، عائقا أمام العشرات من الطامحين، بمن فيهم بائع الخضار والبطال والمتقاعد وعاملة النظافة.. وآخرون
وقَرَن ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي بين آخر مقطع من فيلم “كرنفال في دشرة”، المنجز في تسعينات القرن الماضي، لما عبر رئيس البلدية سي مخلوف عن طموحه في خوض الانتخابات الرئاسية، مع المشاهد المتداولة في محيط وزارة الداخلية، ولو أن الفارق بين المحطتين، أن الأول هو فيلم هزلي، وفي الثانية حقائق دامغة، مما يوحي بأن نبوءة الرجل قد تحققت بعد أكثر من ربع قرن.
ولا يستبعد متابعون للشأن السياسي الجزائري أن ينقلب السحر على الساحر، ويؤدي هذا النوع من الدعاية السياسية بواسطة مترشحين معتوهين مفعولا عكسيا على صدقية الاستحقاق وشرعية الرئيس القادم للبلاد، لأن التاريخ سيسجل بأنه تنافس مع أمثال عياش حفايفة، مراد بوعاني، خالتي عزيزة، وسعيد العمامرة.. والقائمة جد طويلة.
ففيما كان الجزائريون ينتظرون أفكارا وتصورات للخروج من المأزق المظلم، خرج من يزعم بأنه مبعوث السماء لتخليص البلاد والعباد، وأن وحيا يوحى إليه لخوض سباق الانتخابات، وخرج من يقول إنه سيكون لاعبا أساسيا في التشكيلة الرسمية وكأنه في مباراة لكرة القدم، أمام عاملة النظافة فذكرت أنها “لا تعرف السياسة لكنها تعرف من يمارسونها”.
أحد المرشحين يحكم العالم
إذا كانت السلطة قد عانت كثيرا في الاستحقاقات الماضية من ظاهرة العزوف الانتخابي، كتعبير من الشارع على احتجاجه على الأطباق والأنماط السياسية المقترحة عليه، خاصة في ظل الانطباع السائد لدى الرأي العام حول اقتران المنصب السياسي بالفساد، فإن ظاهرة المرشحين المجانين ستقضي برأي المراقبين على آخر أواصر الثقة بين صندوق الاقتراع والمقترعين، لاسيما في ظل هذا الانفلات الصادم، الذي دفع بهؤلاء إلى الواجهة ووضع الأسوياء والعقلاء في الصفوف الخلفية.
لكن مع ذلك يبقى موقف أمثال سعيد العمامرة، الذي يعتقد أنه “تقدم لخوض الاستحقاق في بلاده، رغم مطالب شعبية دولية تلح عليه ليكون حاكما للعالم”، مقبولا في منطق المجانين، فإن المحير فعلا هو أمر السلطة الحاكمة، وهو ضمها لأمثال واحد من أمثال غول، الذي حشر أنفه في جدل وزيرة التربية نورية بن غبريت مع الإسلاميين حول قرار منع الصلاة في المدارس، لكن بطريقته الخاصة.
وفي تدوينة لا تختلف كثيرا عن تصريحات زوار مبنى وزارة الداخلية، ذكر بأنه “لا مانع لدي أن أصلي في المدارس، إذا كان الدعاء لحبيبنا وصديقنا ورئيسنا وأبينا المجاهد عبدالعزيز بوتفليقة”، مستحضرا بذلك زمن تسخير المساجد في الدعاء للسلطان، ومكرسا لثقافة سياسية جديدة في الجزائر تجمع بين المداهنة والجنون.