ماذا يريد حسن أوريد من مجاراة اللعبي والجابري؟
نزل إلى المكتبات المغربية كتاب جديد للكاتب والروائي المغربي حسن أوريد، بعنوان “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب”. كتاب يأتي في صيغة نداء أطلقه الباحث في العلوم السياسية والناطق الرسمي الأسبق باسم القصر الملكي، ومؤرخ المملكة المغربية، قبل أن يبتعد عن دوائر القرار الرسمي، ليتفرغ لكتابة الأعمال الفكرية والنصوص الروائية خلال السنوات الأخيرة، وهي الأعمال التي تتوج اليوم بإصدار كتاب “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب”.
يحمل كتاب حسن أوريد معالم “الكتاب الأطروحة”، الذي غالبا ما يحمل برنامجا للإصلاح والتحديث، يدافع عنه المؤلف، ويضعه بمثابة مشروع تنويري، وخارطة طريق من أجل تجاوز الأزمة القائمة، بعد تشخيصها وتحديد مكامنها. ومنذ البداية، يشخص الكاتب الأزمة ويحددها في أزمة التعليم.
وهي الأزمة التي شخصها المفكر المغربي محمد عابد الجابري من قبل، في كتاب “أضواء على مشكلة التعليم في المغرب”، مثلما يذكرنا كتاب أوريد بنداء الشاعر والكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي، الذي أطلقه في ربيع 2010 بعنوان “من أجل ميثاق وطني للثقافة”، قبل أن يُصدر اللعبي، بعد أربع سنوات من ذلك، كتابا بعنوان “مغرب آخر”، شدد فيه على أن جوهر الأزمة في المغرب إنما يرتبط بقضايا التربية والتعليم. فما الذي يضيفه الكاتب على من سبقه إلى طرح الموضوع؟
المناظرة المغربية
ينطلق حسن أوريد في الباب الأول مما أسماها “أسئلة وجودية”، من قبيل “من نحن؟” و”ماذا نريد؟”. وهو يذكرنا، ههنا، بكتاب صامويل هنتغتون “من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أميركا”. تلك التي دعا فيها الأميركيين إلى استعادة هويتهم، انطلاقا من القيم الدينية والثقافية التي قامت عليها الفكرة الأميركية، معتبرا أن نجاح النموذج السياسي الأميركي لا يكفي أميركا والأميركيين مستقبلا.
كذلك يفعل حسن أوريد، حين يريد الإجابة عن السؤال الأول “من نحن”، في الفصل الأول، وهو يحاول البحث في ما يميز المغاربة عمن سواهم. لا يفضل الباحث الحديث عن الهوية، بل يتحدث عن “الشخصية”، والتي تحيل، حسبه، إلى الثابت لدى أمة من الأمم. هذه الشخصية المغربية تبدو قريبة من “النبوغ المغربي”، كما هو عنوان كتاب عبدالله كنون.
يشخص الكاتب الأزمة ويحددها في أزمة التعليم، وهي الأزمة التي شخصها المفكر المغربي محمد عابد الجابري من قبل، في كتاب “أضواء على مشكلة التعليم في المغرب”، مثلما يذكرنا كتاب أوريد بنداء الشاعر والكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي، الذي أطلقه في ربيع 2010 بعنوان “من أجل ميثاق وطني للثقافة”
وهي “العبقرية المغربية” بلغة أوريد. هذه العبقرية، حسبه، والتي تجد أصولها في اللغة الأمازيغية، القائمة على النحت عوض الاشتقاق، وفي العمران الذي يفضل الحجر على التراب، وفي الهندسة التي تميل إلى الخط بدل المنحني، وفي ذهنية عقلانية غير إشراقية، هي التي أنجبت لنا ابن خلدون وابن رشد والشريف الإدريسي. وهنا، يكون أوريد قد استند إلى أطروحة أخرى مركزية في درس الجابري، والتي يتحدث فيها عن مدرسة عقلانية مغربية، في مقابل مدرسة بيانية مشرقية.
سوى أن حسن أوريد سرعان ما يخفف من هذا “الانحياز المغربي”، منذ الجملة الأولى من الفصل الثاني “ماذا نريد؟”، وهو يقدم إجابة حاسمة متحمسة “نريد أن نكون جزءا من التجربة الكونية، ونستوعب ما انتهت إليه”. ويبرر المؤلف هذا الموقف بكون “الحضارة الغربية ليست إلا خلاصة ما انتهت إليه التجربة الإنسانية، وهي تحمل أثر الحضارات التي سبقتها”، ومن ضمن ذلك الاستفادة من الثقافة العربية، ومن عقلانية ابن رشد التي تحدث عنها.
ثم إن المؤلف لا ينفي وجود ما هو سلبي في الثقافة الغربية، ومن ذلك نزعة “الغطرسة” والهيمنة التي لا تزال تحدوها، منذ المرحلة الاستعمارية. وأما ما نريده نحن، بحسب أوريد، فيتمثل في امتلاك بنية ذهنية عصرية، ومن إشاعة مناخ من الحرية، في مقابل الاستبداد. كما لا بد من عدالة اجتماعية، تضمن للمواطنين، من مختلف الطبقات، مبدأ تكاثف الفرص. كما يدعونا المؤلف إلى واجب التمييز بين “التقاليد وعبادة التقاليد”، على حد قوله. لأنه لا يمكن تصور مجتمع بلا ذاكرة، لكن العودة إلى التراث عنده هي تمثل لروح الماضي، باستحضار صوره، ولا معنى لتلك الصور إن انتفت منها الروح، أو الغاية منها.
الثورة الثقافية
الثورة الثقافية، كما يقترحها حسن أوريد، تقتضي، أولا، وجود “طموح جماعي”، على حد توصيفه. ويرى المؤلف أن المدرسة ينبغي أن تكون جسرا نحو هذا الهدف المنشود. ولا يمكن القبول بمدرسة تحمل عيوب المجتمع واختلالاته. لذلك، ينبهنا أوريد إلى ضرورة قيام ذلك الطموح الجماعي، وإلى ضرورة إشاعة “قيم تسري في شرائح المجتمع. فلا يمكن أن نلقن التلاميذ مبادئ نبيلة في الفصل، ويجدون خارجها شيئا آخر قد يتعارض تماما مع ما أخذوه في الفصل”.
من هنا، تأتي أطروحة الكتاب المتمثلة في مراجعة منظومة التربية والتعليم من خلال ثورة ثقافية شاملة.
ثقافة جديدة
الحديث عن الثورة الثقافية يقتضي ثورة على الثقافة السائدة نفسها، واعتناق ثقافة جديدة معاصرة وثائرة على المسلمات والأوضاع القائمة. ثقافة منفتحة متحررة تؤمن بالجديد، وتتشبث بروح الإبداع. وهي أيضا ثقافة المسؤولية والجدية، بعبارات الكاتب. وينتصر أوريد للجديد، والحال أننا ننتمي إلى عالم جديد، وأننا “لسنا جزيرة معزولة أو قلعة مغلقة لا ينفذ إليها الهواء ولا الضياء”.
وهنا يأخذ المؤلف بشروط هذه الثقافة الجديدة، والمتمثلة في القرية الصغيرة التي شدتها العولمة، وفي الثورة الرقمية، التي يمكن أن نستعين بها في رقمنة التعليم ورقمنة الإنتاج الثقافي وتعميم المعارف بدلا من احتكارها، في ما يمكن أن نسميه “ديمقراطية المعرفة”.
وفي حديثه عن هذه الثورة الثقافية، يضع أوريد المغرب في سياق التحولات الإقليمية والدولية، في ارتباط بتداعيات الربيع العربي ومآلاته. وهنا، يدعو المؤلف إلى “تربية مدنية” و”ثقافة مدنية” في ظل مفهوم الدولة المدنية، الذي صعد إلى الواجهة، بعد أحداث الربيع العربي، في مقابل الأنظمة العسكرية والتيوقراطية.
وتقوم هذه الثورة الثقافية على مراعاة الوحدة والتنوع في المجتمع المغربي، على غنى وثراء هوياتها وتعددها، مثلما تستدعي هذه الثورة “تدبير التنوع الثقافي”، وتعميم التعليم، مع الأخذ بما يسميها “مستلزمات الجودة”. وضمن هذه الثورة الثقافية، ترد مسألة اللغة باعتبارها إشكالا ثقافيا حاسما. وذلك بسبب تردد المثقف العربي ما بين اللغة العربية واللغات الاستعمارية، من قبيل الإنكليزية في أغلب الدول الشرقية، والفرنسية في المغرب العربي. هذا إلى جانب الأمازيغية، باعتبارها اللغة الأم في الكثير من جغرافيات المغرب والجزائر وليبيا. وهي مصدر من مصادر الهوية التي يمكنها أن تكون رافدا من روافد الشخصية الوطنية، كما يسميها المؤلف.
وإذا كانت العربية تتمتع بوضع اعتباري، وقد ظلت حاضنة لثقافتنا العربية الجمعية، فإنها لا تزال تتمتع بقدرات تواصلية وإمكانيات هائلة في صوغ أسئلتنا وإشكالاتنا العربية المعاصرة.
ويستند الإصلاح الجذري عند أوريد إلى مجموعة من العناصر والمكونات، متمثلة في المتعلم أولا، وفي المدرس، وفي المؤسسة/ المدرس، وفي البرنامج، والمنهاج، وفي التدبير الإداري والثقافي، ومن ذلك تدبير الاختلاف الثقافي أيضا.
هكذا، لا يتوقف الأمر، حسب أوريد، في تدبير الاختلالات التدبيرية للسياسات القائمة، بل لا بد من تدبير أمثل للاختلافات الثقافية، أيضا، والانغمار في التجربة الإنسانية الكونية، وهو ما لن يتحقق دون ثورة ثقافية شاملة.
أما الجواب عن السؤال: ما الجديد في كتاب أورويد، فهو، بلا شك، متروك لمن سيقرأ الكتاب.