تعديل الدستور المصري.. تقنين استبداد يسبق عاصفة
تمر مصر بأزمة مركّبة ظاهرها الضائقة الاقتصادية، وباطنها نهشٌ متسارع في هامش حريات يكاد ينتهي. ولم يكن ينقص الاستبداد إلا تقنينه عبر حزمة التعديلات في دستور 2014. وكانت العادة أن يعوّض العدل الاجتماعي غياب الحرية، أملا في نيْل الحسنيين، ولكن التواطؤ على ثورة 25 يناير 2011 أبعدنا مؤقتا عن بلوغ أي منهما. وإذا كان المثل الشعبي يحرّم «الضرب في الميت»، فإن المشرّع لا يحرّم الضرب في دستور على وشك الموت، وقد تعمّدوا أن يقطعوا عنه وسائل التنفس لكي يختنق، تسويغا لتخديره في غرفة العمليات، ونزع البعض من أعضائه السليمة. مهد لهذه العملية صحافيون وكتَبة ومحترفو تفصيل تشريعات ورثهم النظام الحالي من المنتمين عمرا وانحيازا إلى حسني مبارك. ولا أظن مصريا شكا من الدستور، وتذمّر منه، وأبدى ولو اقتراح يطالب بتعديله.
من يحلو له رصد أفعل التفضيل، سيجد دستور 2014 أول دستور يجري الإلحاح على تعديله قبل اختبار صلاحيته. هناك مواد خاصة بالحقوق والحريات يمحوها سلوك بوليسي خشن. والمادة 72 تنصّ على التزام الدولة «بضمان استقلال المؤسسات الصحافية ووسائل الإعلام المملوكة لها بما يكفل حيادها»، وهذا الحياد سراب. وتلزم المادة 145 رئيس الجمهورية بتقديم «إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب، وعند تركه، وفي نهاية كل عام، وينشر الإقرار في الجريدة الرسمية»، ولم تنشر الجريدة الرسمية هذا الإقرار.
في دستور 2014 مادة انتقالية ربما كتبت لخاطر الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع آنذاك. وفي التعديلات المقترحة أيضا مادة انتقالية تخصه. فالمادة رقم 234 في دستور 2014 تنص على تعيين وزير الدفاع «لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بالدستور». في ذلك الوقت، دجنبر 2013، كانت تصريحات السيسي واضحة، وأقسم أنه لا يطمع في شيء، ووعد بعدم الترشح للرئاسة؛ ولن يسمح للتاريخ بأن يكتب أن الجيش تحرك من أجل مصالح شخصية. وفي مناسبة أخرى قال إن الجيش ليست لديه «نية ولا إرادة» للحكم. وفي الاختبار العملي، لم تكن المادة الدستورية الخاصة بتحصين منصب وزير الدفاع كافية إلا لدورة واحدة، فقد اختير وزير جديد في يونيو 2018، بعد إعادة انتخاب السيسي.
وفي التعديلات المقترحة مادة انتقالية تجيز «لرئيس الجمهورية الحالي عقب انتهاء مدته الحالية إعادة ترشحه»، وفقا لمادة جديدة تجعل مدة الرئاسة ست سنوات، بدلا من أربع في دستور 2014. وزيادة في الإحكام، ينص الاقتراح على أنه لا يجوز للرئيس «أن يتولى الرئاسة لأكثر من مدتين رئاسيتين متتاليتين»، بداية من عام 2022 حيث تنتهي المدة الثانية للسيسي، لكي تبدأ المدة الأولى المنقحة.
لو صدقت النية لفُتحت للنقاش العمومي قضية دستور 2014: سياق كتابته وتطبيقه وتجميده وقصوره وتعديله. ولكن الإعلام، الذي يحظى بمادة دستورية على حياده، لا يسمح إلا لرأي واحد يردد كلاما يبدو أنه وزّع على الموالين للحكومة، ويتلخص في أن الدستور ليس كتابا مقدسا. وجادلوا بالمادة رقم 226 التي تجيز لرئيس الجمهورية أو لخمس أعضاء البرلمان طلب تعديل مادة أو أكثر. ولعل الفرح بالعثور على ما تخيلوه ثغرة أغشى أبصارهم عن قراءة هذا اللغم في نهاية المادة «وفي جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقا بالمزيد من الضمانات».
العجلة التي أديرت بها قضية التعديلات مثيرة للريبة. بدأت الخطوة الأولى، الأحد 3 فبراير 2019، باجتماع علي عبدالعال رئيس مجلس النواب باللجنة العامة بالمجلس، لمناقشة طلب قدمه أكثر من خمس عدد الأعضاء، بشأن تعديل بعض مواد الدستور. فهل حصل أي من هؤلاء على تفويض ناخب واحد في دائرته بهذا الاقتراح؟ وفي البيان الصادر عقب الاجتماع تضارب وتناقض، فبعد كلام إنشائي عن بدء مرحلة جديدة من العمل الوطني، نشهد «مرحلة الانتقال من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة استقرار الدولة». انسَ اللغو اللفظي في تكرار تفرضه لهفة الخائف على غنيمة، وأجِب عن هذا السؤال: إذا كنا نبدأ مرحلة استقرار، فلماذا اللهاث على تعديلات تمنح صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية؟
ربما يجوز هذا في مراحل الاضطرابات والحروب، تلك ظروف استثنائية لا يقاس عليها، ولكن للاستقرار طابعا مؤسسيا لا يقتضي تولي رئيس بعينه، بل تقاس كفاءته بمدى القدرة على العمل الذاتي، وفقا لآليات لا ترتبط بوجود شخص أو غيابه.
لم يكن يلزم هذا الإجراء المصيري، الذي قد يؤدي إلى عاصفة يُرجأ موعد انفجارها، إلا الخطوة الثانية، الثلاثاء 5 فبراير، وفيها أعلن رئيس البرلمان موافقة اللجنة العامة على التعديلات. كأن الحكم النابليوني كان بحاجة إلى تقنين سيباركه أيضا مجلس الشيوخ المقترح، وهو الاسم الجديد لمجلس الشورى الذي كان إلغاؤه من مكاسب ثورة 25 يناير؛ لأنه عبء اقتصادي على بلد لا ينتج خبزه.
أتذكر وأذكّر بصرْعة عدّلت حرفا في المادة 77 من دستور 1971، وأجازت إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخرى، بدلا من «مدة». حرف واحد تغيّر، عام 1980، كان شؤما على السادات وأبقى مبارك في الحكم 30 عاما، ولم يكن ليُخلع إلا بثورة.