الانسحاب الأميركي أو الاحتلال الإيراني: لماذا على العراقيين أن يختاروا؟
بدا واضحا في الأسابيع القليلة الماضية، وعقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن سحب قوات بلاده من سوريا، أنه لم يعد أمام النظام الإيراني أي خيار للتخفيف من حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه من واشنطن سوى الدفع بميليشياته -لا في العراق فقط بل في المنطقة برمتها- إلى التصعيد ضد التواجد العسكري في العراق. لأجل ذلك جندت طهران قوات الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في إيران لشن حملة إعلامية ضد وجود القوات العسكرية في العراق تحت مسوغات الحفاظ على السيادة الوطنية العراقية، لكن السؤال المطروح في هذا الملف الشائك هو: عن أي سيادة تتحدث هذه الميليشيات والحال أن إيران تواصل تدنيس العراق منذ 16 سنة تاريخ سقوط نظام صدام حسين؟
أثار تقديم طلب لمجلس النواب العراقي يقترح إعادة تنظيم وتحديد التواجد الأميركي في العراق جدلا في الأوساط العراقية، خاصة وأن المسألة لم تطرح من زاوية توافقات عراقية – عراقية بمختلف طوائفها وأحزابها بل تدفع إلى تمريرها أطراف شيعية معروفة بولائها للنظام الإيراني.
رغم إجماع طيف واسع من العراقيين -بمختلف انتماءاتهم السياسية والدينية والطائفية- على وجوب مغادرة كل القوات الأجنبيةِ العراقَ لضمان سيادته المستباحة منذ سنوات وتحديدا من الجانبين الأميركي والإيراني على حد السواء، فإن التصريح المفاجئ الذي أدلى به رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي والذي قال فيه إن بغداد لن تقبل العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد طهران يسيل الكثير من الحبر حول مأتى تطور نسق الدعوات المطالبة بمغادرة القوات الأميركيةِ العراقَ.
ويرى مراقبون أن هذا التصريح الحكومي يفقد عبدالمهدي شرعيته ويجعله رهين إملاءات القوى السياسية الموالية لإيران لأنها هي التي منحته الشرعية لنيل منصبه الحالي وبالتالي بإمكانها سحب البساط من تحت أقدامه وقت ما تشاء.
وترجح العديد من المراجع السياسية أن هذه التطورات الأخيرة قد تضع العراق أمام خيارين أحلاهما مر؛ فإما المرور بقوة القانون والتصويت ضد بقاء القوات الأميركية في العراق وهو ما يتيح لإيران المزيد من التوسع على أراضيها، وإلا ستتحوّل البلاد إلى ساحة حرب بين واشنطن وطهران قد تُسهم في إنهاك العراق وتُعمّق انقساماته.
وللمضي قدما في تنفيذ مخططها، لم تتوان إيران في لعب أهم أوراقها المرتكزة على تحريض ميليشياتها في العراق لترويج فكرة سحب القوات الأميركية، حيث حتم عليها الأمر أيضا الاستنجاد بمواقف المرجعية الدينية التي نشرت بيانا حثّت فيه القوات الأميركية على الانسحاب.
وقال المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني وفق تقارير لم تثبت صحة مصداقيتها، إن العراق “يرفض أن يكون محطة لتوجيه الأذى لأي بلد آخر”، في إشارة إلى إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بلاده تبقي وجودها العسكري في العراق، لمراقبة إيران.
وتسعى إيران إلى لعب ورقة العراق تجنّبا لأي هجوم عسكري قد تنفذه القوات الأميركية ضدها من على الأراضي العراقية، ويستند أصحاب هذا الموقف الأخير إلى تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني التي قال فيها الثلاثاء، إن الولايات المتحدة لن تصل أبدا إلى أهدافها تجاه إيران. ودعا روحاني إلى إنهاء وجود القوى الأجنبية وتدخلاتها في المنطقة، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة سخرت كل إمكانياتها على مدار 40 عاما لإخضاع إيران مجددا، إلا أنها فشلت في تحقيق ذلك.
وفي الوقت الذي يضع فيه العراقيون على الطاولة مجددا لائحة الأولويات لتحديد المهمة المقبلة في علاقة بالتواجد الأميركي، دخل الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله لنصرة النظام الإيراني، بقوله إن إيران هي أكبر مستهدف من الولايات المتحدة، مؤكدا أن طهران لن تكون وحدها في حال شنّت عليها واشنطن غارات.
وتقف فصائل شيعية عراقية مقربة من إيران في موقع المنتظر لانسحاب أميركي تام ونهائي، وفي جعبتها سلاحان، الأول برلماني والثاني يتمثل في المواجهة. رغم أن الميليشيات التابعة لإيران ترتكز في مقارباتها على أن مهمة الجيش الأميركي في العراق قد انتهت بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، فإن رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي أكد لدى تلقيه طلب تنظيم التواجد الأميركي في بلاده أن العراق لن يستغي عن الدور الأميركي لما تقدمه واشنطن من مهام كبرى في مكافحة الإرهاب.
وبعيدا عن حسابات إيران وميليشياتها في العراق، فإن التذبذب منذ ما قبل حرب الخليج الأولى، كان عنوانا بارزا في العلاقة بين العراق والولايات المتحدة. بعد حصار خانق مع بداية التسعينات ثم غزو لإسقاط نظام صدام حسين، وانسحاب في نهاية عام 2011، عاد الأميركيون عام 2014 إلى العراق كشركاء في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي استوطن حينها في ما يقارب ثلث مساحة البلاد.
وبعد دحر الجهاديين، عادت القوات الأميركية لتصبح “قوة احتلال” غير مرغوب فيها في العراق. وفي حال عارضت تلك القوات الرحيل، سـ“يحق للشعب العراقي مواجهتها بأي شكل من أنواع المواجهة”، حسب قول المتحدث الرسمي لكتائب حزب الله العراقية محمد محيي.
وإذا قررت واشنطن الذهاب بعيدا، يؤكد الأمين العام لـ“عصائب أهل الحق” الشيخ قيس الخزعلي “نحن حاضرون”. لكن قبل الوصول إلى تلك المرحلة، في بلد قتل فيه 4500 جندي أميركي بين العامين 2003 و2011 خصوصا في مواجهات مع فصائل شيعية، يؤكد محيي أن على البرلمان أن يقول كلمته في بادئ الأمر.
وقد تم تقديم مشروع قانون في البرلمان، وفي صورة نادرة، قد يكون هناك إجماع عليه من قبل أكبر كتلتين في المجلس، الأولى بقيادة مقتدى الصدر الذي يسعى ليكون صانع استقلال العراق، والثانية المقربة من إيران والتي تضم قدماء مقاتلي الفصائل التي أسهمت في دحر تنظيم الدولة الإسلامية.
قلق أميركي
يشير الخبير في السياسة العراقية والباحث في معهد “تشاتام هاوس” ريناد منصور إلى أن “التنافس في البرلمان منذ ثلاث سنوات، هو بين القوى الشيعية”. ويضيف “ هؤلاء لا يمكنهم الاتفاق على وزير، ولكنهم يلتقون عند نقطة واحدة، وهي أن التجربة الأميركية في العراق كانت سيئة”.
تتمثل المفارقة في أن من أعاد بث الروح في هذا المقترح الذي يرمي إلى جدولة الانسحاب الأميركي من العراق، هو الرئيس دونالد ترامب نفسه، فقبل عدة أيام أعلن ترامب في مقابلة مع شبكة “سي.بي.أس” الأميركية أنه يريد إبقاء قواته في قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار غرب العراق لـ”مراقبة إيران” المجاورة، وهو ما أثار استياء العديد من القوى في العراق.
لكن النفور العراقي ليس وليد اليوم، بل برز قبل أكثر من شهر، حين زار ترامب جنوده في العراق بشكل سري ومفاجئ، أربك المشهد السياسي في بغداد، خصوصا وأن زيارته كانت بُعيد إعلانه سحب قواته من سوريا. وكان الرئيس الأميركي قد أكد خلال تلك الزيارة أنه لا ينوي “إطلاقاً” سحب قواته من العراق، بل يرى “على العكس” إمكانية لاستخدام هذا البلد “قاعدة في حال اضطررنا إلى التدخل في سوريا”.
ولهذا، فإن الدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين في العراق “قلقون جدا” ويعملون حاليا على “تقليص أضرار” تلك التصريحات، بحسب منصور. وذلك لأن ترامب كشف عن الوجه الحقيقي للتواجد العسكري الأميركي، وهو ليس بغرض مساعدة العراق وإنما هو بمثابة منصة للاعتداء على دول الجوار، بحسب الخزعلي.
رغم أن دونالد ترامب يشدد على إبقاء قوات بلاده في العراق، فإن إعلانه عن سحب قوات بلاده من سوريا ومن ثمة تأكيده أيضا أمام الكونغرس أن “الوقت حان” لوضع حد للحرب في أفغانستان بعد 17 عاما من العنف، يثيران مخاوف الأميركيين ويزيدان في شكوكهم بشأن السياسات الخارجية للولايات المتحدة التي يرون أنها عبدت الطريق لقوى أخرى كي تزيد في نفوذها بمنطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها إيران وتركيا.
مواجهة مرتقبة
يحاول النظام الإيراني من جهته الظهور في موقع القوي المستنجد بميليشياته في المنطقة وفي العراق، منذرا بأنه مستعد في أي وقت للمواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة. وقال الخزعلي إن “ترامب حتى الآن لم يفهم، لم يدرك جيدا، لم يستوعب الدرس؛ أن هذا البلد العراق بلد قوي الآن”، مشددا على أنه “لو أراد ترامب، التاجر، أن يذهب بعيدا في هذا القرار، فعليه أن يعلم علم اليقين أن تكلفة هذا القرار ستكون باهظة جدا”.
وسيكون القانون في البرلمان “الخطوة الأولى” كما يوضح محيي، لكنه يلفت إلى أن “الولايات المتحدة ستتحدى هذه الإرادة الشعبية من جديد”، وبالتالي فإن حزبه سينتقل إلى “المرحلة الثانية”، وهي مواجهة “قوات احتلال”. ويستطرد الخزعلي بالقول “اليوم فصائل المقاومة وكتائب حزب الله لديها من الإمكانات والقدرات والخبرات التي حصلت عليها في مواجهة عصابات داعش، ما يمكنها من مواجهة أي قوة عسكرية ربما تهدد أمن العراق وسيادته”.
في كل الأحوال، يرى محيي أن “على القوات الأميركية أن تغادر العراق وأن تجنب البلد وشعبه إراقة دماء وأزمات جديدة، وتجنب أيضا الجنود الأميركيين أن يذهبوا بتوابيت من خشب مرة أخرى إلى الولايات المتحدة”. ويعتبر مراقبون ل أن سياسات ترامب تمنح فرصة هامة للميليشيات المسلحة للتوحّد ضد تهديد واشنطن ويقول ريناد منصور “هذه الموجة ستسمح للقوى الشيعية بـ“إيجاد تهديد خارجي تتوحد ضده، بدلا من الانقسام حول مشاكلها الداخلية”.