واقعة الانتحار حرقا داخل “تلفزيون” جزائري تعري واقعا مأساويا
أثارت الملابسات التي أحاطت بوفاة الفنان والمنتج التلفزيوني الجزائري يوسف قوسم، غضبا واسعا لدى جموع الفنانين والناشطين في المجالات السمعية البصرية والإنتاج التلفزيوني الجزائري، الذين اعتبروا رحيل الرجل، رسالة قاسية إلى المسؤولين عن المشهد الثقافي والفني في البلاد، وإلى الرأي العام أيضا، لإطلاعهم على الأوضاع المهنية والاجتماعية المزرية التي يتخبط فيها المنتسبون إلى هذا القطاع.
عبر الفنان والمنتج التلفزيوني الجزائري عبدالقادر جريو عن تأثره الشديد بالظروف المأساوية التي رحل فيها زميله يوسف قوسم، الذي قضى في أحد المستشفيات القريبة من العاصمة، بعد إصابته بأضرار جسيمة جرّاء الحروق التي أصيب بها جسده.
وشدد المتحدث على أن رحيل يوسف قوسم هو جرس إنذار للقائمين على الشأن الفني والثقافي في البلاد، وهو رسالة قاسية تطلع الرأي العام على الأوضاع المهنية والاجتماعية التي يتخبط فيها الفنانون والمنتجون في الجزائر، والإجحاف الذي يتعرضون له من قبل بعض التلفزيونات الخاصة وحتى الحكومية.
وكان الراحل يوسف قوسم أضرم النار في جسده، داخل مبنى قناة “دزاير تي.في” الخاصة، المملوكة لرجل الأعمال المقرب من السلطة علي حداد، احتجاجا على تنكر الإدارة لحقوقه المالية العالقة منذ عدة سنوات، والمترتبة على عدة أعمال تلفزيونية أنتجها الرجل لصالح التلفزيون المذكور.
وقضى الفنان عدة أيام في مستشفى الدويرة قرب العاصمة بغرض العلاج، غير أن عمق الإصابة عجّل بوفاته، تاركا وراءه صدمة قوية لدى رفاقه وزملائه في الساحة الفنية، وأثار رحيله غضبا شديدا لدى هؤلاء، عبروا عنه في عريضة وجهوها للسلطات الحكومية، للالتفات الجدي إلى الأوضاع المهنية والاجتماعية التي يتخبطون فيها.
ولم يساهم رفع الحكومة يدها عن احتكار القطاع السمعي البصري منذ العام 2011، في تطوير أو تحريك السوق الفنية في البلاد، فظهور أكثر من أربعين قناة فضائية خاصة، يبقى بعيدا عن المأمول في هذا المجال، وباستثناء عدد قليل منها وصل إلى تحقيق توازناته المالية، فإن البقية تتخبط في أوضاع مالية معقدة، انعكست على مستوى ومضمون البرامج التي تقدمها، وحتى اعتماد آليات غير مشجعة في مجال الإنتاج، مما أدخل الفاعلين جميعا في دوامة كبيرة، كانت وفاة الفنان يوسف قوسم أحد تجلياتها.
وصرّح نجل الراحل ياسين قوسم، بأن “والدي كان يتماثل للشفاء تدريجيا، وأن أطباءه في مستشفى الدويرة كانوا متفائلين بخروجه من مرحلة الخطر، إلاّ أن القدر سبق الجميع وصدمنا برحيله”.
وأضاف “مؤسسة ‘قو فيلم’ المملوكة للعائلة، معروفة بتقاليدها المهنية ووفائها بالتزاماتها تجاه زبائنها من القطاعين الخاص والعام، فقد أنتجت العديد من الأعمال الفنية للتلفزيون الحكومي (القناة الرابعة الناطقة بالأمازيغية)، فضلا عن بعض القنوات الخاصة، قبل أن تتفاجأ بمماطلة إدارة قناة ‘دزاير تي.في’ في الوفاء بحقوقها”.
وتابع “هذه الوضعية التي تعود إلى العام 2017، أحدثت ارتباكا كبيرا في مؤسستنا وجعلتها قريبة من الإفلاس، وما زاد في تعقيد الوضع، هو تنكر المدير الجديد في القناة عبروس أوتودرت، للحقوق العالقة، مما أدى إلى هذه الكارثة التي حلت بالعائلة الصغيرة، وبالعائلة الفنية والثقافية عموما”.
وصرح الفنان عبدالقادر جريو، في تسجيل له على صفحته الرسمية، “الآن يعرف الجمهور والنقاد الحياة التي يعيشها الفنان الجزائري، وظروف النكد والبؤس التي يتخبّط فيها، فقد تعوّد على لومنا وعتابنا لأننا نحن الذين نظهر في الواجهة، لكن لا يعرف الحقائق التي تختبئ خلفنا”.
ويسود شبه إجماع في الساحة الفنية المحلية على أن الفن في الجزائر لا يضمن العيش الكريم لصاحبه، ويبقى الناشطون فيه مجرد هواة فقط، وأن الجمهور الذي ينتقد الأعمال المقدمة له ينطلق من مقارنة غير متكافئة مع الفنان المحترف في مختلف الأقطار العربية، لأنه لا يدرك الحقائق التي جسدها الرحيل المأساوي للفنان والمنتج يوسف قوسم. واضطر العديد من الفنانين إلى تغيير وجهتهم صوب حرف أخرى، لضمان عيش كريم للعائلة، خاصة في ظل حالة الشح التي تضرب الساحة الفنية؛ فتراجع موازنة الدعم الحكومي إلى نحو نصف الموازنة التي كانت تحصل عليها وزارة الثقافة، وغياب تقاليد الاستثمارات الخاصة، جعلا الإنتاج الفني والتلفزيوني بشكل خاص يتخبط في أزمة مالية خانقة.
وصرح صاحب شركة خاصة (دلتا برو)، بأنه يفكر في شن إضراب عن الطعام أمام مبنى التلفزيون الحكومي، بُغية تحصيل حقوقه العالقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، ما أدى إلى إفلاسه ودخوله في دوامة، لأن المؤسسة أنشأها في إطار برنامج تشغيل الشباب الحكومي، وهو ملزم بأداء التزاماته تجاه البنك والضرائب والضمان الاجتماعي.
وهي وضعية تتخبط فيها معظم شركات الإنتاج الفني والتلفزيوني في الجزائر، خاصة تجاه القنوات التلفزيونية الخاصة، التي وجدت نفسها عاجزة عن الوفاء بديونها، ما سبّب مشاكل كبيرة لهؤلاء، حيث شكلت وفاة الفنان يوسف قوسم شجرة تغطي غابة تعج باختلالات مزمنة، انعكست على محتوى ومردود الإنتاج الفني في البلاد.
ويسود إجماع لدى إدارات معظم القنوات المحلية على أسلوب التمويل الخاص (السبونسورينغ)، لأي منتوج يقترح عليها، مما حولها إلى مجرد قاطع تذاكر يأخذ حصته من مدخول العمل،
ولا يولي أهمية لمضمونها أو لتحول القناة في حد ذاتها إلى منصة للدعاية والإعلان، بدل أن تكون وسيلة لبلورة رسالة فنية وإعلامية معينة.