المغرب إلى أين؟
كانت قوة النظام السياسي المغربي تكمن دائما في قدرته على الحفاظ على مستوى معيّن من التوازن بين مختلف الأطراف والأطياف السياسية، بل حتى بين الهويات الثقافية في الكثير من الأحيان. كانت القدرة على تدبير التوازنات الأساسية تندرج ضمن الحنكة السياسية التي اكتسبها نظام نجح في تفادي تجربة الحزب الواحد التي استهوت العديد من تجارب ما بعد الاستقلال في دول أخرى مشابهة أو مجاورة، ونجح في اجتياز مخاطر اعترضته منذ استقلال المغرب: جيش التحرير في الخمسينات والستينات، محاولات الانقلاب العسكري في الستينات والسبعينات، اليسار الراديكالي في السبعينات والثمانينات، بل استطاع النظام المغربي أن يحافظ على مستوى من التوازن السياسي حتى في سنوات الجمر والرّصاص.
أما اليوم، فمن الواضح أن هناك اختلالا متفاقما لفائدة تيار بعينه. هذا التيار هو الإسلام السياسي بكافة أطيافه، والذي تغول رسميا وشعبيا في شقيه الرّئيسين: حزب العدالة والتنمية الذي بات يسيطر على الرّأي العام الانتخابي ويخترق عددا من مؤسسات الدولة؛ وجماعة العدل والإحسان التي هي أكبر حزب سياسي في المغرب وتمثل نوعا من الاحتياطي الصامت والجاهز والمريب.
المؤكد أن إسلاميي العدالة والتنمية قد نجحوا في تمرير قرارات قاسية لم يكن بوسع أي حكومة سابقة أن تمررها دون إثارة الثورات: الزيادة في الأسعار، وفي أسعار المحروقات بلا مبرر مرجعي، الزيادة في سن التقاعد، الزيادة في الاقتطاع من أجور الموظفين لفائدة صندوق التقاعد، اقتطاع أيام الإضراب، إعلان طي صفحة دعم المواد الأساسية، التوظيف بالتعاقد المفوض والمؤقت، وأخيرا إلغاء مجانية التعليم، ما يطرح علينا سؤالا عريضا: لماذا ستستمر الدولة في تحصيل الضرائب؟ الدولة في عهد العثماني تخلت عن وظائفها الاجتماعية بنحو لم يحدث في أي من المجتمعات الرّأسمالية نفسها، بل لا يحدث هذا إلاّ في الدّول الفاشلة. الدولة باعتبارها أكبر جهاز تضامني باتت الآن معرّضة للتلاشي.
كل هذا دون أن يغضب شعبنا المسكين. وكيف له أن يغضب وقد أقنعه العثماني بأنه لا يطبق سوى السياسة الرشيدة لصاحب الجلالة (لعبة خطرة غفل عنها الغافلون)، وفي المقابل نجحتْ كتائبه المجنّدة في إقناع الناس بأن نصرة الإسلام قد تأتي على حساب العيش الكريم، وبأن الزيادة في الصلوات أعظم أجرا من الزيادة في الأجور، وأن الله لن يتم نعمته علينا بالنصر والتمكين إلا إذا خلصنا ملكنا أمير المؤمنين، من أعداء الدين المحيطين به في مربع الحكم والتحكم، وذلك هو الفتح المبين، لكن الوجه الآخر للمسألة أن القضاء على الحس النقدي لدى المواطنين يصبّ في آخر المطاف في حساب كتائب العدالة والتنمية.
في كل الأحوال، كان الاختلال السياسي في المغرب متوقعا منذ زهاء عقد من الزّمن على الأقل، وهذا ما حذرنا منه في أكثر من مناسبة. قلنا مرارا إن الإصرار على إضعاف الأحزاب الوطنية لن يخدم النظام السياسي في أي شيء. قلنا إن التشطيب على القيادات التاريخية بدعوى التشبيب لن يكون سوى تهور غير حكيم. قلنا مرارا إن شعار المملكة “الله الوطن الملك” سيتم تدميره متى وُجد حزب يحتكر الله لنفسه يقابله حزب يحتكر الملك لنفسه، لأن الخاسر هنا هو أحزاب الوطن، بل الوطن بالذات. ففي صدام المقدّسات كلنا خاسرون. قلنا أخيرا، إن الشعب يحبّ الملك لكنه متى وقع في فخ الاختيار بين حزب “الله” وحزب “الملك” سيختار حزب “الله”. هذا هو الفخ الذي نصبه البعض، في غفلة البعض، وتغابي الكثيرين. أما بعد، ماذا عن الخيارات الباقية؟
نحتاج إلى نوع من الإرادة السياسية الحازمة لغاية تجاوز الاختلال وإعادة بناء الدولة القوية، وبلا شك فإن قوة الدولة تكمن في قوة القطاع العام، لا سيما بالنظر إلى ما يرتبط بالطفل، والذي هو المستقبل، الأمر الذي نوشك أن ننساه أو نسلمه للقضاء والقدر. نحتاج إلى المصالحة مع الذكاءات الوطنية الحقيقية، نحتاج إلى استعادة الثقة في العقول الحرّة المستقلة. نحتاج إلى الثقة في أنفسنا أساسا، وفي إمكاناتنا أوّلا، وكل ذلك بعيداً عن ثقافة الدسائس التي لا يتقنها سوى قناصة المناصب. نحتاج إلى أن ندرك الحكمة التالية: في ألعاب التوازن لا يمكنك أن تقف متجمدا؛ ستسقط على الأرض، وقد يكون سقوطك مدويا.