الحسن الثاني ملك علم المغاربة كيف يكونون دبلوماسيين
كان المرحوم الملك الحسن الثاني ، ملك همام وزعيم مؤثّر طبع ببصماته التحولات الكبرى التي عرفتها المملكة المغربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأثر بشخصيته وبعد نظره في الساحة الدبلوماسية العربية والدولية.
الأمير الأسمر ترجمان أبيه
في التاسع من يوليو 1929 نزل إلى المغاربة خبر مفاده أن “الملك الفقيه سيدي محمد بن يوسف قد أضيء قصره العامر بمولود ذكر اختار له من الأسماء الحسن“. توالت السنون وصاحب الأمير والده في كل مراحل حكمه. وعكف على تعلم اللغة الفرنسية ودراسة تراثها الفكري والأدبي وأتقنها، وجند نفسه “ترجمانا فوريا” لوالده الذي كان الاستعمار يتربص به وبوطنه الذي نُفي منه إلى “كورسيكـــا” ثم “مدغشقر” حيث تعلم “الأمير الأسمر” من والده أن المنــــافي صانعة الرجال.
ساهم الحسن الثاني رفقة والده الملك محمد الخامس في تحرير المغرب من الاحتلال الفرنسي بحنكة ودهاء سياسيين منذ ريعان شبابه، فاستطاع بذلك قيادة المغرب بحكمة وقبضة من حديد تشكّلت على خلفية المؤامرات التي حاكها أعتى جنرالات المرحلة “محمد أوفقير”؛ اللواء صاحب العين الاصطناعية الزجاجية الذي أذاق الأمير الشاب طعم الخيانة أكثر من مرة، وعبر أكثر من انقلاب، وعلمه أن الشك والخوف والحيطة والحذر من شيم الحكام.
تعرّض الحسن الثاني لعدّة محاولات اغتيال فاشلة على مدى الـ38 سنة التي قضاها في الحكم. رغم ذلك استطاع الحسن الثاني أن يحقق لبلده الاستقرار الذي عجزت عنه العديد من دول المنطقة المجاورة، معاكسا كل التيارات السياسية في ذلك الوقت، وتوجيه بلاده نحو المعسكر الرأسمالي، في حين كانت معظم الجمهوريات العربية تُساند المعسكر الاشتراكي.
بركة الملك
في عام 1971 وأثناء الاحتفال بالذكرى الـ42 لميلاد الحسن الثاني بمنتجع “الصخيرات”، هاجم حوالي 1400 جندي حفل الملك، مخلفين 100 ضحية من بينهم سفير بلجيكا في المغرب، كما جرح أكثر من 200 شخص. ونجا الملك الحسن الثاني.
“لكل زمن رجال، ولنتوكل على الله”، آخر ما نطق به الملك الحسن الثاني
وبعد أقل من سنة على محاولة انقلاب “الصخيرات”، وعند رجوع الملك من زيارة رسمية لفرنسا، تعرضت طائرته لهجوم من أربع طائرات مقاتلة من نوع إف-5، في محاولة اغتيال من تدبير انقلابي تزعمها الجنرال أوفقير، مستعينا في تنفيذ ذلك بطياري القوات الجوية المغربية، ما جعل الطائرة الملكية تهبط اضطراريا بمطار الرباط – سلا، ولم يتوقف الانقلابون عن قصف الطائرة الملكية حتى أعلن الحارس الخاص للملك عن “موت الملك”، في حين خرج الحسن الثاني سالما من الباب الخلفي للمطار، ونقله أحد الفلاحين في سيارته الخاصة إلى القصر الملكي بالرباط، ليقوم بتثبيت النظام من جديد وتهدئة الأوضاع. يومها قام جهاز الثقة الذي يشرف عليه الدرك الملكي باعتقال جميع الانقلابيين واعتقالهم في سجن “تزمامارت”، ومن بين الانقلابيين الجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية آنذاك، لضلوعه في المحاولة الانقلابية المعروفة بـ”عملية بوراق إف 5″.
سنوات الرصاص والمسيرة الخضراء
هناك من يصف فترة من حكم الحسن الثاني بـ “سنوات الرصاص” التي “تعرّض فيها بعض المعارضين للقمع خلال انتفاضة الريف وحرب الصحراء ومجازر البيضاء وفاس”، وهي مرحلة لم تنل حقها من البحث القانوني المطلوب، لذلك يصعب الحكم عليها.
|
أما أهم حدث ميّز فترة حكم الملك الحسن الثاني فهو حدث “المسيرة الخضراء”، التي طالب من خلالها المغرب في بداية السبعينات، بعودة الصحراء التي كانت مستعمرة أسبانية إلى سيادة المغرب. وقد شارك في تلك المسيرة 350 ألف مغربي، دخلوا الصحراء رافعين مصاحف القرآن الكريم والأعلام المغربية وأعلام الدول الشقيقة والصديقة للمملكة المغربية. تلك المسيرة دفعت أسبانيا إلى الانسحاب من الصحراء، وذلك بعدما كانت حكومة الجنرال “فرانكو” قد قامت بتجزيئها حسب معاهدة مدريد إلى ثلثين للمغرب (الساقية الحمراء) وثلث لموريتانيا (وادي الذهب) تفاديا لحدوث نزاع بين الدولتين، وهي تجزئة استعمارية أرادت بها أسبانيا “ترك الوتد في الأرض” ليستمر النزاع وعدم الاستقرار في المنطقة.
لقد علمت قضية الصحراء الحسن الثاني الصبر السياسي، وهي القضية الكبرى لبلاده التي استنزفت الكثير من أموال المغرب، بينما كان تلميذ الجنرال أوفقير “إدريس البصري” يستمر في خداع على العاهل المغربي مستغلا اهتماماته بالسياسة الدولية، مقدما إليه التقارير الكاذبة التي بلغت حد خلق التوتر بين أهل الصحراء والنظام، وهو ما صنع تنظيما سياسيا عرف في ما بعد بـ “جبهة البوليساريو”.
الأجانب والتأريخ للمغرب
أهم ما كتب ويكتب عن المغرب والمغاربة قديما وحديثا يظل من عمل كفاءات أجنبية في مختلف المجالات، نذكر منها كتابا لباحث أميركي هو واتر بوري بعنوان “أمير المؤمنين”، صدر منذ العقد السادس من القرن الماضي، وهو مازال حتى الآن أفضل تشريح للسلطة السياسية بالمغرب. كما أن ما يكتب في الإعلام الأجنبي عن المغرب والمغاربة، ما زال يعتبر الأجرأ، والأكثر جدوى، وفي ذلك دلالة على أننا لم نغادر بعد عتبة المحظورات في أكثر من مجال تقوم عليه الحياة العامة للبلاد. وإذا كان صحيحا أن لكل قاعدة استثناء، فإن الاستثناء في إطار الكتابة عن الحسن الثاني وحكمه، يتمثل في العديد من الشهادات والكتب والمقالات التي تناولت الموضوع من جوانب عدة، نذكر منها مثلا كتاب المؤرخ المغربي المعروف عبد الله العروي “المغرب والحسن الثاني”، الصادر مؤخرا، فضلا عن تلك الكتب التي ألفها بعض ممن اصطلح عن تلقيبهم بـ”ضحايا سنوات الرصاص” وهم ثلة من العسكريين، على غرار محمد الرايس وأحمد المرزوقي… الذين ساعدتهم أجواء حرية الرأي في المغرب على التعبير عما اعتبروه ظلما في حقهم، الظلم الذي جرهم إليه الجنرال أوفقير، كما أن هناك أيضا معتقلي الرأي أمثال أبراهام السرفاتي وعبد الفتاح الفاكهاني اللذين ظلمهما وزير الداخلية إدريس البصري، الوزير الذي كان يصفه أتباعه بـ “الوزير القوي الذي كان يحكم المغرب عندما ينام الملك”، وهو الذي خلّف “أصداء سيئة عن الحكم في المغرب بما كان يقوم به، باسم الملك، دون علم الملك.
“لكل زمن رجال، ولنتوكل على الله”، آخر ما نطق به الملك الحسن الثاني وهو يهم بالذهاب إلى المستشفى حيث سيسلم الروح لبارئها بعد حكم عرف الشد والجذب بين من كانت لهم مصالح في حكمه ومن كانت له مصالح في إجبارهم على المكوث تحت لواء حكمه. “عدل أم لم يعدل، أخطأ أم أصاب”، أجوبة موجهة إلى التاريخ، والحكم في ذلك يبقى للأجيال القادمة التي ستوضح بكل جرأة، وبالبراهين، من هو الملك الحسن الثاني، المسؤول الذي كان “لا ينام حتى يستيقظ المغاربة”.