عانس وأفتخر
أكثر ألقاب الظلم النسوي والقهر الاجتماعي والعاطفي لمشاعر المرأة، ملاحقتها بلقب “عانس”. تلك الكلمة التي تسمعها الفتاة في المجتمعات العربية . فقط لأنها تجد ما يشغلها ويملأ وقتها بعيدا عن الزواج والتبعية لرجل، أو رفضها لفكرة الزواج بالكلية نتيجة تشبعها بنظرة مسبقة شديدة القتامة والسواد عن تجارب، وأخبار زيجات فاشلة، وربما نتيجة تجارب حب سابقة لها شخصيا.
العجيب في الأمر أنن اتهام الفتاة بالعنوسة ونعتها بما تكره لم يعد مرتبطا بسن معين، بل إن نسبية الوصف من بيئة لأخرى ومن مكان لمكان هبط بعمر الفتاة المنعوتة بالعنوسة في بعض الأحيان إلى العشرينات، بينما غيرها في نفس الظروف الاجتماعية والنفسية، ولكن في بيئة مغايرة قد تتهم بكونها عانسا وهي في عمر الثلاثين، وربما الأربعين، وقد يتخطاها هذا الاتهام وتبرأ من تلك الملاحقة.
ورغم هذه الاختلافات تظل قسوة ومرارة اللفظ تلاحق فتيات، قررن تدشين حملة “عانس وأفتخر” لصفع فظاظة الكلمات الجارحة في حقهن، وحملة “ظل حيطة (حائط) ولا ظل رجل”، في إشارة إلى استقلال فتيات عن سلطة الرجل وسطوته عليهن، محققات لاستقلال مادي يكفل لهن حياة كريمة بعيدا عن سلطة رجولية هشة للهرب من نظرة المجتمع، أو اللقب الجارح.
في حديث عابر مع عشرينية رفض أهلها اقترانها بحبيبها نظرا لظروفه المادية القاسية، كونه خريجا حديث العهد، ولا يملك مقومات مادية تكفل حياة زوجية كريمة لابنتهم (من وجهة نظرهم) في حين تم تزويجها قصرا لرجل يكبرها بعشر سنوات، فقط لامتلاكه بيتا فارها وسيارة وحسابا بنكيا يؤسس لمعيشة مرفهة.
ورغم رفض الفتاة لهذه الحياة الزوجية التي تحمل بداخلها أسباب الفشل والهدم، إلا أنها تدافع بشراسة عن وجهة نظر أسرتها في حديثنا الافتراضي عن مدى قبولها لتزويج ابنتها -بعد الإنجاب- من زوج لا يملك لها سوى الحب والتقدير فقط.
يبدو أن الأهل دائما تتغير بوصلة تفكيرهم لصالح الأبناء بغض النظر عن مشاعرهم وعواطفهم، وبغض النظر عن الظروف المحيطة بهم، وزمانهم المتقلب بين اليسر والشدة. ناصرت الفتاة أهلها في مطالبهم المبالغ بها من حبيبها، محللة وجهات النظر المتصارعة بسماحة، حال إنتقال الحديث بشكل افتراضي إلى أبنائها المحتملين.
الحملات المراد منها تشويه الآخر تنم عن عجز عميق، ومتشعب، فالعجز هو السبب الرئيسي وراء نيل الشباب من بعضهم البعض، العجز عن توفير الشاب حياة مستقرة تحمل قواعد راسخة تمنعها من الانهيار
دون أن ندري، تطرق بنا الحديث وتفرع في عدة مناطق، ومحطات وصولا إلى حملة “خليها تعنس” التي اكتظت بها صفحات التواصل الاجتماعي ردا على مطالب أهل العروس وإثقال الحمل على كواهل شباب في مقتبل العمر بتكاليف زواج، ومهور، ومطالب غير منطقية تفوق طاقتهم.
وبالطبع لم تقف الفتيات في صفوف المتفرجين على المشهد من الخارج، ولكن حافظن على موقعهن خلف الكواليس للرد بقوة على ردود الأفعال وصناعة الخبر، وتجلى هذا في تدشين حملة مضادة أكثر عنفا، بعنوان “خليه يخلل” تلتها حملة تعدّ تحديا صريحا موجها للرجل بعنوان “خليك في حضن أمك”.
رغم الرفض الشعبي القاطع لمغالاة أهالي الفتيات المقبلات على الزواج في مطالبهم إلا أن حملة “خليها تعنس″ لاقت رفضا غير متفق عليه بين فئات الشعب والأهالي.
أعادت الحملات المتوالية إلى الأذهان موضوع فيلم “الزواج على الطريقة الحديثة” بطولة سعاد حسني وحسن يوسف، الذي طرح حلا غير تقليدي للالتفاف على عجز الكثير من الشباب على توفير مسكن لائق وتأثيثه بما يسمح بتكوين أسرة. بموافقة الأهل على تزويج أبنائهم مع بقاء الأبناء بمنزل الأهل ودعمهم إلى حين استقرار وضعهم المادي، والذي كتبه وأخرجه صلاح كريم.
تعد الحملتان الشبابيتان، الرجولية، ومماثلتها النسائية من مظاهر العنف اللفظي والتربص بالآخر، عوضا عن التيسير ورفع المعاناة عن الشباب.
تطرقت مع محدثتي إلى تفاصيل منها ما يمس مجتمعا بأكمله يعاني انفصاما بين واقعه الذي يفرض عليه مطالب تليق بأبنائه الذين يراهم يستحقون حياة تحمل مظاهر الرفاهية والتمدن، وبين مشاعر ممزقة برأفة مزيفة على اللسان وينكرها الفعل.
ظني أن هذه الحملات المراد منها تشويه الآخر تنم عن عجز عميق، ومتشعب، فالعجز هو السبب الرئيسي وراء نيل الشباب من بعضهم البعض، العجز عن توفير الشاب حياة مستقرة تحمل قواعد راسخة تمنعها من الانهيار، وعجز الفتاة عن الحفاظ على حياتها الزوجية بعيدا عن وشوشات الأهل والأصدقاء، فالتشويه في رأيي سلاح العاجز.
لست مع التحرش اللفظي بالآخر تحت أي مسمى، وأرفض تلك الحملات بشكل قاطع، لكنني مع تقديم حلول جذرية لمشاكل اجتماعية يجب القضاء على أسبابها ومعالجتها معالجة مبنية على أسس علمية صحيحة، بتوفير أمان مادي واستقرار اجتماعي نفسي للشباب، ودعمهم بفرص عمل لائقة، تسمح ببداية حياة مستقرة.