تجنيس على أبواب المونديال، أين المعيار الأخلاقي والثقافي
قبل نهائيات كأس العالم عام 2014 ظلت ألمانيا تبحث عن أول إنجاز لها في البطولة العريقة منذ سقوط جدار برلين وتوحيد شطري البلد عام 1990.
رغم أن ألمانيا تحمل العدد الأكبر في العالم بشأن عدد الحاملين لإجازات ممارسة كرة القدم بأكثر من سبعة ملايين لاعب، فإن هذا لم يترافق مع إنجازات كبرى طيلة تلك الفترة التي شهدت بداية انفتاح أكبر نحو العالم وتوسّع العولمة وظهور الجيل الثاني من المهاجرين إلى أوروبا الذين استقروا واندمجوا في تلك المجتمعات بعد عقود من قدوم الجيل الأول في ستينات القرن الماضي.
حتى تسعينات القرن الماضي ظل المنتخب الألماني وعلى خلاف منتخبات إنكلترا وهولندا وفرنسا، بمثابة الوعاء المعبر عن الترابط العرقي والإثني المشترك للألمان من ذوي الأصول الجرمانية برغم كل التحفظات التي استهدفت قراءات الفيلسوف نيتشه بشأن تفوق العرق الآري.
لكن السياسات الإصلاحية التي شملت قطاع الرياضة جنبا إلى جنب مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية مكنت من تعميم فكرة الهجرة والإدماج التي طالت الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين، لتصبح ألمانيا بلدا ليس للعمل والكسب فقط ولكن أيضا الوطن الذي تنحت فيه هوّية بديلة ومشتركة وتمنح فيه الفرص للجميع على قدم المساواة.
بهذه السياسة ضربت ألمانيا عصفورين بحجر واحد، إذ استطاع البلد أن يحافظ على نسب نمو عالية للاقتصاد المصنف الرابع عالميا برغم نسبة المواليد الضعيفة للألمان، وصناعة مجتمع ديمانيكي يتجه شيئا فشيئا إلى صنف المجتمعات متعددة الأعراق، وقد كان نتاج ذلك طفرة جديدة في قطاعات الثقافة والفنون والرياضة أيضا، بعد عقود من حالة انكماش أعقبت الحرب العالمية الثانية واستمرت طيلة الحرب الباردة.
بفضل تلك السياسات التي فتحت الباب على مصراعيه لاندماج المهاجرين ومنحهم حق المواطنة الكاملة، عادت ألمانيا إلى مدارها الصحيح في كأس العالم بإدراكها النصف النهائي لدورة 2002 و2006 و2010 بدفع كبير من أبناء المهاجرين، قبل أن تنجح في إحراز اللقب الرابع في 2014 بفوز تاريخي على البرازيل المستضيفة سيظل محفورا لعقود طويلة في الذاكرة.
يمثل الإدماج الألماني وصفة مثالية لصناعة مجتمعات متعددة الأعراق تلتقي تحت سقف هوية مشتركة، كانت الولايات المتحدة الأميركية والقوى الاستعمارية القديمة سباقة أيضا في انتهاجه. لكن مع ذلك لا تجد هذه السياسات صدى يذكر في المنطقة العربية ذات الإمكانيات المالية الضخمة برغم ضعف بينتها الديموغرافية.
في مقابل ذلك تقتصر سياسات الإدماج الحذرة في هذه المنطقة على عمليات تجنيس محدودة للغاية تكون انتقائية وموجهة ولا تلقي بالا لمعيار الحق في المواطنة الكاملة رغم توفر الشروط الموضوعية للملايين من المغتربين بمن في ذلك ذوي الأصول العربية الذين يقاسمون أهل البلد وحدة الدين واللغة والتاريخ.
قطر فرّطت حتى الآن في فرصة تاريخية لإعادة التعريف بنفسها كبلد يجمع ويبني ولا يفرّق، ويخدم الإنسانية في سياقها العالمي والتعددي
صحيح أن قطر نجحت عبر هذه السياسة الانتقائية في تحقيق إنجازات مهمّة في بعض المسابقات القارية بمنحها جوازات سفر قطرية لأبطال من أفريقيا ومخضرمين من أوروبا ودول عربية ومناطق أخرى في العالم، غير أن هذه الإنجازات سرعان ما تفقد معيارها الأخلاقي في ظل قوانين محلية مقيّدة للغاية لحق الإقامة والمواطنة وحرية العمل والتنقل للمغتربين برغم الخلل السكاني الكبير لهذه الدولة التي لا يمثل فيها القطريون سوى أقلية منغلقة على نفسها.
فكرت قطر بكل الطرق الممكنة عبر بوابة المال في تصدير صورتها بجانب الدول الكبرى حتى عبر استضافة مسابقة كأس العالم لكرة القدم عام 2022 لكنها لم تفكر حتى اليوم وقبل عامين من انطلاق المسابقة، في تحسين سجلها في معاملة العمال والمغتربين الآسيويين على أرضها وفي إصدار تشريعات أكثر انفتاحا وإدماجا لباقي الأقليات خصوصا لمن قضوا سنوات طويلة في قطر.
وحتى التعديلات التي أعلنت عنها بخصوص منح الإقامة الدائمة، فهي لا تعدو أن تكون سوى ذر للرماد على العيون، لأنها لا تستهدف عموم المغتربين على قدم المساواة وتتجه فقط لأبناء القطريات المتزوجات من غير القطريين أو أنها تشمل بشكل فضفاض ومبهم من أدوا خدمات جليلة لدولة قطر وأصحاب الكفاءات الخاصة.
لم تعد بطولة كأس العالم مجرد لعبة تقوم على رهان رياضي بحت. فلقد وقف المجتمع الدولي في نسخ ماضية بدءا على الأقل من دورة الولايات المتحدة عام 1994 على حقيقة أن هذا الحدث هو مشروع تتداخل فيه الرياضة والثقافة والسياسة والاقتصاد بشكل لا يمكن فصل بعضها عن بعض، فضلا عن تبنيه لفكرة التعددية في كل تفاصيل التظاهرة مقابل انحسار أكبر للهويات الوطنية الضيقة، وهو أمر وقف عليه المتابعون بشكل واضح في دورات فرنسا 1998 وكوريا الجنوبية واليابان عام 2002 وألمانيا 2006 وجنوب أفريقيا 2010 وروسيا 2018. عندما قدمت الدول المستضيفة نفسها بصورة مغايرة لما كنا نعرفه عنها في كتب التاريخ.
فما هي الصورة التي ستقدمها قطر في مونديال 2022 بخلاف فريقها الوطني المجنس أو الجماهير التي ستجندها في مدرجاتها لنصرة هذا المنتخب دون شعور أدنى بوحدة الانتماء. والأهم من ذلك هل سينجح في تغيير الصورة النمطية التي شاعت عن الدوحة في معامع المال والتطرف.
لقد فرّطت قطر حتى الآن في فرصة تاريخية لإعادة التعريف بنفسها كبلد يجمع ويبني ولا يفرّق، ويخدم الإنسانية في سياقها العالمي والتعددي. فالتشريعات الأنانية الحالية لا تمثل فقط ضربة لصورة بطولة كأس العالم في بعدها الإنساني الجديد ولكنها تمثل عنصر إحباط مضاعفا لخطط منظمي البطولة من أجل توسيع المشاركة لتشمل ضيوفا جددا على أول بطولة تقام في المنطقة العربية والشرق الأوسط.