البكاء من حق الرجل أيضا
عدد لا بأس به من الدراسات والبحوث يحاول في السنوات الأخيرة الكشف عن سر تفوق البنات على الأولاد في المدارس، فالإحصائيات تشير إلى أن نسبة الفتيات اللاتي يكملن تعليمهن الجامعي تصل إلى 71 بالمئة في حين لا تتجاوز 61 بالمئة بالنسبة إلى الذكور، وهي ظاهرة تكاد تكون موجودة في كل المجتمعات الحديثة.
بعض التفسيرات تقول إن السر يكمن في طريقة تربية الأولاد والبنات، حيث بات واضحا أنها لا تتماشى مع وقتنا الحالي ومتطلباته، ففي العالم كله تقريبا هناك إجماع على أن الذكور يُفضلون ممارسة الرياضة والألعاب الإلكترونية وسباق السيارات أو الدراجات، في حين أن الفتيات تربين على الموسيقى والرقص وتعلم اللغات والتصميم والرسم وركوب الخيل، وغيرها من المهارات التي أصبحت في السنوات الأخيرة مضمّنة في المناهج التعليمية كمواد أساسية تعطى للجنسين على حد السواء.
العامل المميز لهذه التربية هو أن الفتيات يسمح لهن بتفريغ الشحنة العاطفية والنفسية لديهن، عكس الأولاد الذين يُمارس عليهم نوع من الكبت المتوارث، بحكم الاعتقاد بضرورة تربيتهم تربية “قوية”، فضلا عن أن هذه التربية تصبح لاحقا عاملا مساعدا للفتيات لاستيعاب المواد والمناهج التعليمية وعاملا معيقا للأولاد.
جميعنا تقريبا، بنات وذكورا، نتذكر عبارات سمعناها في بيوتنا توجه لأبناء العائلة من الذكور من قبيل “لا تبك أنت رجل، الرجل لا يبكي” أو “لماذا تبكي مثل البنات؟”، أو “الرجل لا يخاف”، وفي الغالب يتم تحويل حزن الذكر إلى غضب، وخوفه إلى “تعنت”، وهي قنوات الصرف البديلة، التي اعتقد الآباء أنها أفضل للرجل.
فغضب الولد أفضل من بكائه وانفعاله أفضل من ضعفه، وهكذا فقد تربى الأولاد على كبت مشاعرهم، والتحايل عليها وصرفها عبر قنوات خاطئة، مع أنها، في الحقيقة، لا تختلف كثيرا عن مشاعر البنات، وفيها نفس القدر من الألم والضعف، والحب، والكره، والخوف، بل إن علم النفس الحديث أظهر أن الأولاد تحت سن 4 سنوات يتميزون بحساسية أعلى من البنات، وانفعالاتهم أشد، غير أن الذي يوجه هذه العملية الشعورية هو نحن، المجتمع الذي يبدأ في سن مبكرة في نهر الولد من إبداء مشاعره وتشجيعه على إخفائها. وبديهي أن هذه المشاعر لا تختفي، بل تتراكم في مكان عميق داخل الطفل، فتعيق نموه النفسي والجسدي.
علماء النفس يقولون إن الوقت قد حان لجعل الأولاد، يلتحقون بمدارس الموسيقى، والرقص، والتصميم، واللغات، على غرار البنات اللاتي اخترقن بدورهن قاعات الرياضات العنيفة، والألعاب الإلكترونية، ويتابعن دراساتهن الجامعية في العلوم الصحيحة والتكنولوجيا، والإلكترونيات، ومعظم المواد التي كانت حكرا على الذكور. الفوارق في طريقها إلى أن تختفي، وهي ليست فوارق بيولوجية طبيعية، بقدر ما هي فوارق مكتسبة بحكم التربية والموروث. ولم يعد من مصلحة أحد الإصرار على هذه التربية، فلا أحد يستفيد من تشويه هوية أبنائنا الذكور وطمس معالمها الصحية المستديمة. ماذا تفعل المجتمعات برجل “قوي”، بعد أن انتفت الحاجة إلى القوة كعامل أساسي للتغلب على الطبيعة الخشنة، وأصبح الذكاء الحسي والذهني هو ما يكرس الطبيعة ويطوعها، ويجعلها أكثر أمنا وإنسانية، وليست القوة؟
لا بأس من أن يبكي الطفل الذكر أو يخاف أو يتألم إذا ما انتابته مثل هذه المشاعر، والأفضل أن يطلق لها العنان، دون خشية أن تمارس عليه رقابة، أو يهزأ منه أحد. ولو تركنا أبناءنا الذكور يتصرفون وفق مشاعرهم، سنلاحظ أن حجم الغضب “القناة البديلة” قد قل، وأن طريقة التعامل أسهل والتواصل معهم أفضل بكثير، وهو ما من شأنه أن يوجد مجتمعات أكثر توازنا، وأقل عدوانية وحروبا.