الطاقة.. قضية استراتيجية تحوّل أوروبا لساحة حرب روسية أميركية
تتراكم المتغيّرات الجيوسياسية والعسكرية والحروب التجارية العالمية، التي قد تجعل من القارة الأوروبية ساحة لصراعات دولية بين القوى العظمى، علاوة على الجدل الذي يثيره اتهام موسكو بخرق المعاهدة النووية المتوسطة مع الولايات المتحدة وهو ما يقلق الأوروبيين من تحوّل قارتهم إلى مجال واسع للتسابق نحو التسلح، فإن أهم الملفات الراهنة التي تؤرق دول الاتحاد الأوروبي وتحديدا ألمانيا هي تجارية بامتياز لما يلاحظ من تدخّل قوي من قبل واشنطن في قضية الغاز الطبيعي الهادفة أساسا ضمن تصورات الولايات المتحدة لمنع أي تقارب أوروبي روسي.
أصبح ملف الغاز الطبيعي من أكثر القضايا الساخنة التي ستزيد في إرباك العلاقات الأوروبية- الروسية من جهة والعلاقات مع الولايات المتحدة من جهة ثانية، فبعد تدخّل واشنطن في سياسات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالغاز الطبيعي بهدف الوقوف أمام أي تقارب روسي أوروبي، تشير كل التطورات الجديدة إلى أن هذا الملف الحارق قد يُعيد رسم توازنات القوى والعلاقات السياسية والاقتصادية في العالم.
وتعتزم واشنطن في إطار مواصلة سياستها الحمائية، الهادفة إلى حماية المنتوجات الأميركية من أي منافسة أجنبية، فرض عقوبات ثانية على ألمانيا على خلفية مشروع السيل الشمالي 2 المتمثّل في نقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق.
ويرى العديد من الخبراء، أن التدخّل الأميركي لمنع أي تقارب روسي أوروبي، ليس متأت فحسب من صراع قوى كلاسيكي هدفه الأساسي مواصلة السيطرة على العالم، بقدر ما هو مرتبط بالسياسة التجارية الحمائية، خاصة بعدما أصبحت الولايات المتحدة بفضل الغاز الصخري مصدّرة للنفط والغاز الطبيعي.
وتشعر العاصمة الألمانية برلين، بالقلق إزاء تلميح واشنطن باستعدادها فرض عقوبات ثانية على مشروع السيل الشمالي 2، الهادف إلى نقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق.
وظهرت بوادر التصعيد الأميركي تجاه ألمانيا، التي أعلن عنها وزير الطاقة الأميركي، ريك بيري، نهاية العام الماضي، بتأكيده أن بلاده قد تلجأ لفرض عقوبات ضد الشركات المساهمة في إنشاء خط السيل الشمالي 2.
كل هذه الخطوات التي تعكف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على اتخاذها، أكّدها أيضا السفير الأميركي في برلين، ريتشارد غرينيل، الأسبوع الماضي، بتوجيهه رسالة إلى الشركات المشاركة في مشروع السيل الشمالي 2، محذرا إياها من العقوبات الأميركية.
ويرى مراقبون، أن هذا الصدام الأميركي- الألماني المرتقب جاء أيضا كنتيجة للعديد من التراكمات السياسية التي رافقت مسيرة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي انتهجت عكس من سبقها سياسة تقارب واضحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي السنوات الأخيرة شهدت العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة عددًا من الخلافات الأخرى، كان أبرزها هجوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي قال “إن روسيا تتحكم تمامًا في ألمانيا”، وهي التصريحات التي رفضتها المستشارة الألمانية.
ووصف ترامب العام الماضي خلال مشاركته في قمة الناتو، اتفاقية ألمانيا مع روسيا بشأن الغاز الطبيعي بـ”غير لائقة”، قائلا “إن ألمانيا تسدد مبالغ مرتفعة لروسيا مقابل الغاز الطبيعي، ولذلك فإنها تعتبر أسيرة لروسيا”.
تصعيد الرئيس الأميركي ضدّ برلين، لم يقف عند التصريحات بل رافقته أيضا موافقة مجلس النواب الأميركي أواخر 2017، على قرار فرض عقوبات على عدد من الشركات والأشخاص المشاركين في المشروع.
وما يثير قلق واشنطن الآن بخصوص هذه القضية أن الشركات الروسية انتهجت في المقابل سياسة استفزازية عبر تأكيدها منذ فرض واشنطن عقوبات على الشركات المشاركة في المشروع أن السيل الشمالي 2 مستمر في جذب الاستثمارات على الرغم من الضغوط الأميركية.
وكانت شركة “غازبروم” الروسية على سبيل المثال قد أفادت في أواخر العام الماضي بأن الاستثمارات التي تم جمعها لتنفيذ مشروع “السيل الشمالي 2”، كافية لتغطية الجزء الأكبر من كلفة المشروع، الهادف لضخ الغاز من روسيا إلى ألمانيا مباشرة.
وقال نائب رئيس مجلس إدارة شركة “غازبروم” أندريه كروغلوف إن “غازبروم وشركات الطاقة الأوروبية المشاركة في المشروع نفذت التعهدات المالية التي أخذتها على عاتقها، والاستثمارات التي تم جمعها كافية لتغطية معظم كلفة المشروع رغم التهديدات الأميركية”.
لكن ألمانيا تشعر بدورها بقلق متزايد من التهديدات الأميركية، حيث أكّد وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، مرارا على ضرورة ألا تتدخل الولايات المتحدة في السياسات الأوروبية بخصوص الطاقة.
أما روسيا المعنية مباشرة بالحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة فترجع المسألة إلى حسابات أيديولوجية بحتة يخوضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنزعج من التطور الاقتصادي الذي تحققه دول الشرق وخاصة موسكو والصين.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قد أكّد سابقا في ردّه على تهديدات واشنطن أن دعوة ترامب لوقف مشروع السيل الشمالي 2 ليست نابعة من حسابات اقتصادية أو تجارية بل هو نتاج لمعركة أيديولوجية يريد إعادتها إلى السطح الرئيس الأميركي ترامب.
لكن رغم الخطابات الروسية الألمانية المتمسّكة بالتقارب المصلحي، فإن جل الخبراء يؤكدون أن العقوبات الأميركية سيكون لها أثر كبير على مستقبل المشروع خاصة أن الكثير من الشركات قد تتخلى عن المشاركة فيه هربا من خسائر ضخمة قد تتكبدها.
ويقول ستيفان مايستر، رئيس مركز روبرت بوش للدراسات حول أوروبا الشرقية وروسيا وآسيا الوسطى، إن قرار العقوبات الأميركية سيؤثر سلبا بشكل مباشر على الشركات المشاركة في المشروع، ما سيسفر عن إنجاز شركة غازبروم للمشروع بمفردها.
وأضاف أن قرار العقوبات في حال صدوره، سيدفع بالشركات الألمانية أيضا للتخلي عن المشروع، إلا أن هذا الأمر لن يقف أمام إنجاز مشروع السيل الشمالي 2، ما سيحقق الفائدة لسوق الأعمال الألماني في المستقبل.
وأردف “وفي الوقت ذاته، إن إتمام المشروع معناه بأن ألمانيا ستصبح مركزا مهما للطاقة على الرغم من العقوبات الأميركية، ما سيجعل العلاقات الألمانية الأميركية تشهد المزيد من التراجع”.
وتسعى الولايات المتحدة لوقف مشروع السيل الشمالي لثلاثة أسباب، أولها، وجود بعض الأطراف الأميركية الداعية لقطع العلاقات مع روسيا بشكل كامل، حتى ولو كان الأمر على حساب تضرر العلاقات مع حلفاء أميركا في أوروبا.
والسبب الثاني حسب مايستر، يكمن في أن الولايات المتحدة تستغل المشروع للضغط على ألمانيا بهدف عقد اتفاقيات تجارية أكبر معها. أما السبب الثالث، فهو تنافس الولايات المتحدة مع روسيا في بيع الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.
ويبقى مستقبل إنجاز هذا المشروع رهين، تفاعل أو تمسك الشركات المشاركة في إنجازه به وهو ما سيحدد بنهاية المطاف الخطوات المقبلة التي ستقدم عليها كل من روسيا وألمانيا. هنا، يؤكّد الباحث الخبير في أسواق الغاز العالمية في مركز “كلينغيندايل” الهولندي، لوكا فرانزا، أن العقوبات الأميركية الثانية ستضرب الشركات بدرجة أكبر من الدول.
وأشار إلى أن الجانب الروسي مُصر على إتمام مشروع السيل الشمالي 2، حتى ولو شهد أزمة في التمويل من الجانب الأوروبي، إذ يعد الكرملين مستعدا لضخ الأموال لإتمام المشروع.
وأضاف بأن واشنطن تعارض منذ سبعينات القرن الماضي، الاتفاقيات المشتركة بين روسيا وأوروبا، في مجال الغاز الطبيعي.
وطول أنابيب مشروع السيل الشمالي 2، يبلغ 2200 كم، ومن المزمع أن يكتمل المشروع بنهاية العام الجاري، إلا أنه لم يتم إنجاز سوى 400 كم من الأنابيب حتى الآن.
وكانت روسيا قد أعلنت عن المشروع عام 2015، عقب ضمها لإقليم القرم، بهدف تقليص حصة الصادرات الأوكرانية من الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
وتشارك في المشروع عدة شركات غربية كبرى مثل غازبروم، شيل، أو.أم.في، إنجي، أونيبر، ووينترشال، في حين تعارضه عدد من الدول إلى جانب الولايات المتحدة مثل أوكرانيا وبولونيا ودول منطقة البلطيق.
ومن المنتظر أن تبلغ تكلفة المشروع حوالي 10 مليارات يورو (11.4 مليار دولار)، على أن يساهم في ضخ 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق.
وفي 2017، أصبحت الولايات المتحدة دولة مصدرة للغاز الطبيعي للمرة الأولى بعد 60 عاما، حيث تسعى إدارة ترامب لتصدير المزيد من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا بهدف تقليص عجز التجارة الخارجية.
وحسب شركة “سي إف إنترناشيونال” للاستشارات العالمية، فإنه من المنتظر أن تصل قيمة مجموع صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال بحلول 2050 إلى 716 مليار دولار.
وفي الوقت الذي تعد فيه أسعار الغاز الطبيعي المسال الأميركي أغلى من أسعار نظيرتها الروسية، تسعى الشركات الأميركية لتخفيض الأسعار في ظل المنافسة مع روسيا.
وفي نوفمبر 2018، توصلت شركة “بي.جي.أن.آي.جي” البولونية الحكومية للطاقة، وشركة “جينيري” الأميركية للطاقة، لاتفاق ينص على تصدير الولايات المتحدة الغاز الطبيعي المسال إلى بولونيا لمدة 24 عاما.
كل هذه التهديدات، تدفع بالسياسة الألمانية إلى البحث عن تحالفات جديدة للصمود في وجه سياسات ترامب ولذلك تتحرك لفرض المزيد من التقارب مع بوتين وكذلك للاحتماء بالاتحاد الأوروبي وتقويته عبر لقاءاتها المتكررة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتأسيس جبهة أوروبية تقف في وجه الأزمات التي قد تسببها الولايات المتحدة لأوروبا ولتحصين الاتحاد من النزعة الشعبوية المتطرفة التي اكتسحت القارة العجوز.