هل ينزع الفرنسيون السترات الصفراء في زمن ماكرون؟
لقد كانت فرنسا دائما على موعد مع التجديد في أثواب ديمقراطيتها بشكل دائم. ففي القرن الماضي، عرفت فرنسا تعديلات دستورية متتابعة فكانت الجمهورية الرابعة، ثم تلتها الجمهورية الخامسة. وعندما أيقن جيل ستينات القرن الماضي أن التغيير، وكسر الجمود الاجتماعي والسياسي يجب أن يكون من القاعدة، وليس من قبل السياسيين المحترفين عبر قوانين، وقرارات، وإصلاحات دستورية… قامت أحداث مايو عام 1968، وأرغمت الرئيس ديغول على الانسحاب من الحياة السياسية. وتغير المجتمع الفرنسي على إثرها، وأحدث الشباب ثورة في الحريات، وكسروا حواجز الممنوعات، وتجددت معهم أحلام شباب العالم وتطلعاتهم. ولكن يبقى أهم إنجاز لتلك الحركة حينها كان في تكريس دور الشارع، وفئات المجتمع التي لم تكن مسموعة قبلها في دولة مؤسسات عريقة وذات تاريخ…
والمراقب للأوضاع السياسية والاجتماعية في فرنسا، وحالة الركود والجمود في الفكر السياسي والاجتماعي. وانعدام الطروحات الجديدة لدى كل الأحزاب بلا استثناء. وتماهي طروحات اليمين في اليسار والعكس. وانعدام النقد الذاتي الذي كانت تتمتع به الأحزاب الفرنسية في مراحل سابقة. يدرك تماما أن فرنسا قادمة على التغيير، وأنه بات وشيكا. لتأتي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي بقدر ما كانت مفاجئة لكثيرين، إلا أنها وفي اعتقادي كانت من ضمن ديناميكية المجتمع الفرنسي، الباحث عن التغيير بشتى السبل.
وكما أتى الرئيس الفرنسي ماكرون من اللامكان سياسيا، فكذلك أتت حركة السترات الصفراء إلى ساحات الاحتجاج والنضال من اللامكان، فأعادت وإلى حد ما التوازنات في اللعبة السياسية في فرنسا، في ظل ضعف كل الأحزاب يمينا ويسارا. ومن أهم ما أظهرته هذه الحركة هو سرعة نشوئها كحركة احتجاجية غير منظمة، وزخمها، وقوتها، وديناميكية اتخاذ القرار بين أفرادها، الذين في الأساس لا رابط بينهم، سوى الخوف على مستقبلهم، ومستقبل أولادهم، وشعورهم بالغبن، في بلد يعتبر من الدول الكبرى وأحد أعمدة الاقتصاد العالمي… وأيضا في تحولها بسرعة مدهشة من حركة احتجاجية، إلى حركة مطلبية منظمة، تتطور مطالبها كل يوم. لتتحول بسرعة مذهلة إلى شبه حركة سياسية، تجاوزت في طروحاتها الأحزاب التقليدية، وخصوصا فيما يخص مشاركة الشعب في فرض القوانين والقرارات، من خلال الاستفتاءات (الديمقراطية الاجتماعية)، مما يعني سحب البساط من تحت أرجل الساسة، ورجال الحكم.
ومثل هذا الموضوع لو تم تطبيقه في فرنسا، وخضعت له المؤسسات التشريعية الفرنسية، فإنه يعني أن الجمهورية الخامسة قد طويت صفحتها، وبدأت الجمهورية السادسة. وأن جماهير الباستيل التي قامت بالثورة الفرنسية في عام 1788، قد استعادت الراية من جديد، وبعد أكثر من قرنين من الزمان، وأصبحت شريكا فعليا في الحكم، واتخاذ القرارات…
إن الديمقراطية الاجتماعية La démocratie sociale، لو قدر لها وطبقت في فرنسا فهذا يعني انكسار حلقة تحكم أرهاط السياسة الذين يتصدرون المشهد في القرار، والمؤسسات التشريعية الحالية أيضا. وبصيغة أخرى سيعني أنسنة القوانين والقرارات، وجعلها أكثر شعبية. وأن الديمقراطية سوف تكون أقل فجاجة مما هي عليه اليوم… وسوف يخلق ذلك ديناميكية سياسية جديدة في المجتمعات، بل في الديمقراطية نفسها على الصعيد النظري والتطبيقي. وتتحقق بالتالي طروحات وطموحات سارتر، وكل جيله من المثقفين اليساريين، وقادة الحركات العمالية، والطلابية، في ستينات القرن المنصرم. مما سيعني أيضا امتدادها إلى دول مجاورة لم تعد فيها الديمقراطيات تمثل الشعوب بحق، ولا تمثل طموحاتهم وهو ما يخيف كثيرين، وخصوصا الذين على الكتف الآخر من المتوسط حيث تستفحل الدكتوتوريات، وحيث توجد المصالح الحيوية للديمقراطيات الغربية.
ولقد شكلت فرصة الأعياد مناسبة لتلتقط الحكومة أنفاسها، وتدرس كل الإمكانيات التي من الممكن القيام بها من أجل السيطرة على الوضع. فكان أن طرح الرئيس ماكرون طاولة للحوار يشارك فيها كل الفرنسيين، في خطوة لحل الأزمة، تبدأ الثلاثاء في 15 يناير (كانون الثاني) وتستمر حتى منتصف شهر مارس (آذار). وقد منيت طروحاته هذه بنكسة من قبل أن تبدأ، وذلك باستقالة الوزيرة السابقة شانتال جوانو، المكلفة بالإشراف على تنظيم هذا الحوار.
وفي الواقع فإن ماكرون بطروحاته هذه، يريد اللعب على الوقت، والالتفاف على حركة السترات الصفراء، طالما أن ما طرحه لم يحدد له آليات تطبيقية وتنفيذية، أي قد يكون مجرد نقاش في الهواء الطلق، من أجل النقاش… طالما أنه يصر على متابعة ما يسميه إصلاحات، وهنا بيت القصيد. وتتابع الحكومة منذ عدة أسابيع إصدار قرارات تصب في اتجاه واحد وهو تضييق الخناق على هذه الحركة بشتى الوسائل والسبل. وبالتالي خنقها، لكي تكتفي بما حققته، أو بالأحرى بما أعطي لها. لأن تخطي تلك العتبة يعني انتهاء الرئيس ماكرون سياسيا، وانتهاء كل الأحزاب التقليدية من يمين ويسار على السواء من ورائه. ونشوء حركات سياسية جديدة، بطروحات وبرامج جديدة. مما يعني التجديد لكل الطاقم السياسي من الألف إلى الياء…
ويقف الرئيس ماكرون اليوم في هذه المعركة، ومن خلفه الساسة الفرنسيون صفا واحدا، ما عدا بعض الساسة الشعبويين. وعندما يطرح ماكرون على الطاولة مجموعة أفكار لتطوير العمل السياسي، وللتباحث في الأزمات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، فإنه يعرف أن بقية الأحزاب السياسية التي تشعر بأن الأرض تميد من تحت أقدامها توافقه الرأي، وأنها إلى جانبه، وإن لم تعلن ذلك صراحة. مما يعني أن ماكرون تحول بالنسبة للساسة الفرنسيين من ند سياسي انتزع منهم الأضواء، إلى حليف…!
فيتنفسون جميعا قليلا من الأوكسجين قبل الاستحقاق الانتخابي الأوروبي، الذي على الأبواب والذي كان يأمل الرئيس أن يحقق من خلاله دخول حزبه إلى البرلمان الأوروبي بقوة، بينما تأمل الأحزاب التقليدية عودتها. وكذلك تحقيق انتصار في الانتخابات البلدية التي ستأتي بعد ذلك، مما يعني التجديد له لولاية جديدة. اللهم إلا إذا قررت حركة السترات الصفراء التي لم تفقد زخمها، ولا شعبيتها، بالرغم من كل عمليات التكسير والتخريب، وحرق السيارات، وقطع للطرقات، دخول هذه الانتخابات…!
وعندها ستكون مفاجأة من العيار الثقيل، وتكون قد تحولت إلى حركة سياسية جديدة. وسوف تكون فرنسا عندها أمام معادلات سياسية جديدة، تُنْهي المعادلة القديمة يمين يسار. وتصبح أمام تيارين: الأول، يمثله ماكرون، ومِنْ ورائِه رجال المال والأعمال، وبعض رجالات السياسة القدامى. والثاني، يمثل فرنسا العميقة والطبقات الشعبية بكل أطيافها، وكل الذين هم خارج نادي المال والأعمال، مع دور محدود للحركات والأحزاب السياسية التقليدية…
وإذا كان قصر الإليزيه والحكومة وكل السياسيين يعانون من التخبط، حول كيفية التعاطي مع هذه الحركة الشعبية المفاجئة. فهناك تخبط أيضا لدى قيادات هذه الحركة. إلا أن التخبط داخل الحركة، نستطيع اعتباره محمدة من المحامد وإيجابيا. لأنه سوف يُصعِّب الطريق على الحكومة، ويربكها في التعاطي والتفاوض والمساومة. مما يعني أن الحكومة سوف تعطي أكثر مما تأخذ…
ولو قدر لهذه الحركة أن تنجح، فهذا يعني أن هناك تغييرا مُنْتظرا على مستوى العالم بأكمله في حركاته السياسية، وطروحاتها، وأفكارها. وأن هناك ربيعا أوروبيا على الأبواب، قد يمتد إلى ما وراء البحار في كل الاتجاهات، وخصوصا إلى البلاد التي استعذبت شعوبها النوم، وهذا قدر فرنسا التاريخي من أنها دولة مؤثرة في كل محيطها، وفي العالم…
الأنظار في هذه الأيام تتوجه إلى الإليزيه لمعرفة من سيقوم بهذا الحوار، ويديره…؟ وكيف ستكون أليته…؟ والرئيس ماكرون، ومن خلفه جيش من المستشارين والسياسيين التقليديين، يراهنون على أن قسما من أصحاب السترات سوف يشاركون في هذا الحوار، مما سيحدث شرخا وانقساما في صفوفهم. فيلتقطون بالتالي هم أنفاسهم، ويعيدون تنظيم صفوفهم، للتعاطي مع الذين لم يشاركوا، في الحوار، باتهامهم بالمخربين والهامشيين وغيرها… ويقومون فيما بعد بالتخلص منهم على طريقة كل الأنظمة الأخرى. وخصوصا إذا علمنا أن المقترحات التي ستصدر عن هذا الحوار سوف يتم تشكيل لجان لدراستها، وأخرى لإعادة صياغتها. وبالتالي فإن على السترات الصفراء انتظار ربما عدة سنوات ليتخذ في تلك التوصيات قرار، وكلمة فصل. وربما قد تعرض على مجلس النواب، حيث يملك الرئيس الأكثرية والشيوخ الذي يسيطر عليه اليمين القريب من رجال المال والأعمال للدراسة فيرفضون بعضها ويعيدون صياغة أخرى في دوامة روتينية لا تنتهي…