الفكر والأدب وقضايا الهجرة
في مطلع السبعينات من القرن الماضي، تمكّن المغربي الطاهر بن جلون من أن يفرض نفسه في المشهد الثقافي والأدبي الفرنسي بفضل تحقيقات وكتب أنجزها عن الأوضاع المزرية التي كان يعيشها العمال المهاجرون المغاربة، وعن الجرائم والاعتداءات العنصرية التي كانوا ضحيّتها سواء في عملهم أم في حياتهم اليومية.
وقد لاقت تلك التحقيقات، وتلك الكتب مثل “أقصى درجات الوحدة” تعاطفا كبيرا لدى نسبة عالية من الفرنسيين. كما أنها حرّضت مفكرين وكتابا كبارا أمثال جان بول سارتر، وميشال فوكو، وسيمون دي بوفوار، وجان جينيه، ورولان بارت على إظهار تعاطفهم مع العمال المهاجرين. لذلك لم يكونوا يترددون في حضور التظاهرات التي تنتظم في باريس، وفي غيرها من المدن الفرنسية للتعبير عن مساندتهم لهم، وعن رفضهم لكل أشكال الظلم والعنصرية التي تطالهم.
ولم تكنْ فرنسا استثناء في هذا المجال، مجال الدفاع عن المهاجرين. ففي ألمانيا، تَنكّر الكاتب غونتر فالاراف في زيّ وهيئة عامل تركي ليمضي أشهرا طويلة في معمل كبير بمدينة كولونيا يشغّل مئات العمال الأتراك. وإثر ذلك أصدر كتابا بعنوان “رأس التركي” أدان فيه بشدة ما يتعرض له أولئك العمال من ضيم ومن قهر سواء داخل المعمل أم خارجه. وقد لاقى الكتاب المذكور شهرة واسعة في ألمانيا. كما أنه دفع كتابا كبارا أمثال غونتر غراس، وهاينريش بل، وهانس ماغنوس انسنسبرغر، وفاسبيندر إلى اتخاذ نفس المواقف الإنسانية التي اتخذها أصدقاؤهم الفرنسيون.
ورغم أن عدد المهاجرين كان ضئيلا في إيطاليا في تلك الفترة، فترة السبعينات، فإن مواقف كبار المثقفين في بلاد دانتي أمثال بازوليني، وألبرتو مورافيا، وأنطونيو نيغري، وأمبرتو إيكو لم تكن مختلفة عن مواقف أصدقائهم في فرنسا، وفي ألمانيا.
لكن انطلاقا من نهاية القرن العشرين، وبداية الألفية الجديدة، لم يعد جل المثقفين والكتاب والمفكرين في فرنسا، وفي ألمانيا، وفي بلدان أوروبية أخرى يظهرون ما كان يظهره أسلافهم من تعاطف تجاه المهاجرين العرب والمسلمين. ولعلهم يعتقدون أن هؤلاء المهاجرين خصوصا بعد استفحال الأعمال الإرهابية التي ارتكبها شبان من الجيل الثالث باتوا يشكلون خطرا جسيما على أمن بلدانهم، واستقرارهم. بل هم يُحمّلونهم مسؤولية البروز المدوي للأحزاب اليمينية المتطرفة التي أصبحت تتحكم في المشهد السياسي. والبعض منها صعد إلى سدة الحكم، وغزا البرلمان الأوروبي في بروكسل.
ولعل المفكر الفرنسي ألان فينكيلكراوت هو أفضل من يُجسد مواقف هؤلاء. فهو يعتبر أن جل المهاجرين من العرب والمسلمين “أعداء” يهدّدون أمن أوروبا وثقافتها الإنسانية خصوصا بعد أن أشهر المتطرفون الحرب على من يسمّونهم بـ”الصليبيين”. لذا يدعو فينكيلكروات الأوروبيين إلى ضرورة إدراك فداحة الخطر المتربّص بهم، رافضا التنوع الثقافي الذي يتحدث عنه المثقفون الأوروبيون الذين لا يزالون متشبثين بمواقف أسلافهم. وهو يرى أن هذا التنوع هو في الحقيقة “وهم”. لذا ستكون المواجهة شديدة وعنيفة بحسب رأيه مع المهاجرين الذين يرفضون الاندماج في الحياة الأوروبية.
ولا يخفي الفرنسي الآخر الروائي المعروف ميشال والباك كراهيته للمهاجرين من أصول عربية وإسلامية. وفي أغلب رواياته، خصوصا في “استسلام”، هو يقدمهم ككائنات بدائية، عنيفة ومتخلفة، تسعى في الخفاء وفي العلن إلى تدمير القيم الإنسانية للحضارة الغربية.