الجالية
يجمعنا المنفى.. بعد أن عاش كل واحد منا قصة تكفي لتكون رواية من صلب الواقع لكنها أشبه بروايات الخيال العلمي.. وربما يكون هذا هو المنفى الاختياري الأخير.. بعد أن تقاسمت البلاد حيواتنا وأرسلتنا البواخر والطائرات والقطارات إلى أكثر من أرض وسيطة ومستقرات مؤقتة.. ليستقر بنا الرحال هنا.. فنلتقي..
جيل ولد وتربى وعاش في وطنه واختار أو اضطر أو أجبر على الرحيل بحثا عن حياة أفضل لجيل آخر ربما كان لا بد له أن يجرب حياته بعيدا عن الموت اليومي والحروب التي أكلت عقودا وبشرا وحجرا.. ومازال الأفق يستقرئ أن تأتي على المزيد..
ها نحن معا هنا.. تجمعنا الصدف أو المناسبات.. فينا من يؤثر أن يمزق صفحة الماضي بكل آلامه وسعاداته ليبدأ على هذه الأرض صفحة بيضاء جديدة يسطر عليها معارف جديدة وبشرا من نوع آخر.. فيخلع عنه جلدته تماما ويربي أولاده وفق معطيات المكان وتقاليده.. وهو إما أن ينجح في أن ينسلخ تماما وإما أن يضيع.. وفي أحسن الأحوال أن يكرّس كل ما لديه لينشئ جيلا جديدا نقيا غير هجين ينتمي للمنفى بلا جذور تربك مسيرة حياته.. ويكون جل اهتمامه الابتعاد عن كل ما يربطه بوطنه من الأخبار إلى العلاقات والاهتمامات..
وفينا من يبالغ بالتمسك بهويته.. فنلمس منه تطرفا عرقيا أو مذهبيا أو قوميا لم نألفه فيه.. لكن صدمة المنفى وإحساس الضياع فيه يجعلانه يتكّئ على ما يشعره بالأمان صوب أطفاله ليحميهم مما قد تأتي به الأفكار السائدة عن ضياع الغرب وتفكك مجتمعه.. وغالبا ما نجد هذا النوع من المهاجرين لا يختلط سوى بالمتطرفين مثله.. ونجده متقوقعا في صَدَفة العرق والدين والمذهب..
ومنا من يقف في مكانه.. يقاوم التحرك صوب أي اتجاه.. أو أنه ينفتح بكل اتجاه.. وهنا يتفاوت التوازن النفسي ليخلق أحيانا بشرا ضائعين لا يعرفون ما يريدون ولا يريدون أن يعرفوا.. أو ربما يخلق نفسية أكثر هدوءا وتوازنا..
ولا شك أن المنفى يعرّي المهاجر ويظهر حقيقة معدنه الأصيل من الزائف.. ولذا نجد نفوسا لم نكن نلحظ أمراضها قبل المنفى ونواجه مشكلات لم تكن جلية في الوطن الأم تخلفها الصدمات الحضارية أو الارتباك الذي يحدثه كل ما هو مختلف في العالم الجديد بدءا من الجو العام والتقاليد والأعراف المجتمعية وليس انتهاء بأسلوب الحياة المختلف.. ناهيك عن عوائق اللغة والمفاهيم.. ولذلك فإن الكثير من الهاجرين عموما لا يجدون أنفسهم إلا مع مجتمع الجالية.. ويصعب عليهم الاندماج الكامل بمجتمع المنفى.. حتى وإن فرضت عليهم الحياة اليومية وظروف العمل عكس ذلك..
وعلى الرغم من وضوح الطبقية والتكتلات السياسية والدينية والمذهبية داخل مجتمع الجالية.. إلا أن الغريب في الأمر أنه لا يبدو بمثابة نموذج صغير للمجتمع الأصلي.. لأن تأثيرات العيش في المنفى لا بد وأن تترك بصماتها فيبدو مجتمعا هجينا يوحي بانتمائه لمكان آخر لكنه يفقد الكثير من هويته الأم.. أو في أقل القليل يتوقف زمن انتمائه للوطن عند لحظة مغادرة أفراده..
وأيا ما كان الأمر.. فإن مجتمع الجالية جدير بأن يكون وطنا جديدا هو مزيج من الوطن والمنفى.. ونستطيع دائما أن نجعل منه مدينة فاضلة ولو بأضعف الإيمان